الغنوشي يتحدّث عن الدين والدولة والخلافة والعلمانية ونظام الحكم: الإسلام لم يقدّم نمطا محدّدا لنظام الحكم والدولة
السبت 27 أوت 2011 الساعة 09:04:10 بتوقيت تونس العاصمة
تتمة للحديث الشامل والحصري الّذي أجرته «الشروق» مع رئيس حركة النهضة السيّد راشد الغنوشي وردّا على سؤال حول تصريحات أدلى بها مؤخّرا في مصر حول الخلافة وأثارت بعض اللبس والانتقادات من خصوم الإسلاميين في تونس، تلقينا من الشيخ راشد الغنوشي الإجابة التالية: «لم أصرح بشيء جديد يختلف عما هو مألوف من آرائي ، قلت بأنّ المسلمين يؤمنون بأنهم امة واحدة مع أنهم يعيشون في ظل دول قطرية فرضت عليهم فيسعون الى تجاوزها صوب اطر وحدوية أرقى مثل الوحدة المغاربيّة والعربيّة والإسلاميّة ، وهي اطر موجودة ولكنها مفرغة من المضامين بما يستوجب تفعيلها، ومعنى ذلك أن فكرة الوحدة لم تُغادرهم وهذا الأمر لا يوجد لدى المسيحيين مثلا (ليس لهم مفهوم الأمّة). ومن ذلك منظمة المؤتمر الإسلامي –مثلا- هيكل موجود لم يصنعه الإسلاميون بل صنعته الدول والحكومات وهي الّتي أوجدتهُ والدساتير في الدول العربية والإسلاميّة تؤكّد على المرجعية الإسلاميّة ، فالإسلام ليس غريبا عن جملة الأفكار والأطر السياسية بل هو أصيل.وعندما نُطالب بمزيد تفعيل مثل هذا الهيكل –منظمة المؤتمر الإسلامي – هل يتحوّل مطلبنا ذلك إلى مطيّة لتشويهنا والتقول علينا بالخرافة أو بازدواجية الخطاب.إنّ الحديث عن الوحدة الإسلاميّة ليس وهما وليس هو بمنكر، عندما تعرّضت البوسنة إلى تلك المحنة أصبحت تشغل كلّ المسلمين وأضحت قضية تنبض في قلب كلّ مسلم وكأنّ الحرب كانت تجري في داخل كلّ واحد منّا. والأمر ذاته إزاء محنة الشيشان وفلسطين. النهضة لا تعتبر الخلافة مصطلحا دينياوالنهضة وخلافا لبعض التيارات الإسلاميّة فإنّها لا تعتبر الخلافة مصطلحا دينيا، إذ يُمكن ان يطلق على الحكم الذي ينتسب إلى الإسلام دولة أو مملكة أو سلطنة أو خلافة أو إمارة ذلك لا يهمّ، العبرة بالمسميات لا بالأسماء وهناك بعض الجماعات الإسلاميّة جعلت من الخلافة لفظا مُقدّسا وعنوانا مُلزما للحكم بالإسلام على الرغم من أنّ هذا المصطلح ليس مصطلحا دينيا بل هو مصطلح سياسي يُمكن الأخذ به أو الاستعاضة عنه دون حرج ، ناهيك وأنّ الدولة التي مرّت في تاريخ الإسلام والمسلمين لم تحمل جميعها تسمية الخلافة بعضها حمل تسمية ألإمارة والبعض حمل تسمية المملكة أو السلطنة...وفي هذا العصر الحديث استخدم اسم الجمهوريّة أو الدولة الإسلاميّة، ومن أهم كتبي ما يحمل عنوان: «الحريات العامّة في الدولة الإسلاميّة».ثمّ الخلافة خلافة من؟ إنّها خلافة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تولاها أبو بكر الصديق ولمّا جاء عمر بن الخطاب هل كان عليه أن يقول بأنّه خليفة خليفة رسول الله قال إنّه أمير المؤمنين...لاحظ التحوّل والتغيّر في التسميات.بالنسبة لنا العبرة بالمسميات وليست بالأسماء، والمسائل السياسيّة في الإسلام معظمها عائد إلى مجال المصالح وهو مجال اجتهادي متغير في عمومه.سلطة الاجتهاد ترفضُ أن يحتكر عالم واحد أو مجموعة فهم النصوص الدينيّةإن الإسلام لم يأت بصورة محدّدة لنظام الدولة لأنّ نظام الدولة تحكمه المصالح ، غير أنّ الدولة كيان له أسس ثقافيّة توجّه السياسات والبرامج والقوانين ، وفي هذا الصدد يتدخّل الإسلام، الإسلام ليس نظاما للدولة وإنّما هو مرجعيّة لها ولقوانينها ولقيمها وسياساتها. وهذه المرجعية لا تنطق باسمها هيئة محددة بل الأمة في تدافع اجتهاداتها ، وإنّه باستثناء التشيّع (الشيعة) الّذي أقرّ بوجود «ولاية الفقيه» تنطق باسم الدين ، فبقية التيارات –والتي نحن من ضمنها- لم تقل بمؤسّسة تنطق باسم السماء أو باسم الوحي وإنّما تُرك الأمر للأمّة (المواطنون) للتشاور والتدافع لتصل في النهاية إلى ما هو الإسلام وما هو موقف الإسلام من قضايا السياسة والمجتمع والثقافة والتعليم ..أي عبر الاجتهاد، ومادامت العقول متعدّدة فإنّ الاجتهادات تكون متعدّدة ، وعندئذ يُمكن لآليات الديمقراطيّة الجديّة أن تعييننا على الوصول إلى القرارات الّتي تُعبّر عن الإرادة العامّة عبر المجال المتعدّد، فمثلا البرلمان يصبح مصدرا للفتوى والتشريع وفضاء لمعرفة موقف الإسلام من مختلف القضايا.إنّ سلطة الاجتهاد ترفضُ أن يحتكر عالم واحد أو مجموعة فهم النصوص الدينيّة إنّما هي الأمّة عبر ممثليها، وهنا فقط يُمكن أن نصل إلى التوافق بين الدين والدولة فالدين لا يتدخّل عبر مؤسّسة مثل الكنيسة بل يتدخّل عبر المجتمع عبر سلطة التدافع والتشاور، وذلك بسبب غياب سلطة دينيّة في الإسلام لأنّ السلطة –والدولة- في الإسلام هي سلطة ودولة مدنيّة تُصيب وتخطئ ، دولة تُمارس الاجتهاد ومن يُمارس الاجتهاد يبقى دوما عرضة للخطإ والصواب.وفي الإسلام لا سلطة للدولة الإسلاميّة على ضمائر الناس (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ، لأنّ الحريّة مقصد أساسيّ من مقاصد الشريعة ولا قيمة لتديّن لم يستند إلى حريّة صاحبه، لأنّ التديّن بغير حريّة (بغير قرار ذاتي) هو نفاق والنفاق وهو أسوأ من الكفر ، والإسلام لا يُريد أن يُحوّل الناس من كفّار إلى منافقين لأنّه عندما يُجبرهم على ما لا يريدون يجعلهم منافقين.الحريّة هي الخطوة الأولى نحو الإسلامإنّ الحريّة هي الخطوة الأولى نحو الإسلام (يدخل الإنسان الإسلام بمسؤوليّة شخصيّة لا مجال فيها للغش أو النفاق وبفعل ذاتي يُعبّر عن قناعة ذاتية: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله)، وبالتالي ليس من مهمّة الدولة أن تفرض على الناس دينا أو خلقا ولكن من مهمّاتها أن تُوفّر لمواطنيها مناخا صحيّا للتعاون والتعايش والحوار والتثاقف والنقاش والمساواة والإبداع ، وهذه هي الحضارة حيث الفضاء المفتوح الّذي تتلاقى فيه كلّ العقائد والأفكار والإرادات ويبقى لكلّ واحد من الناس أن يُقرّر ما يشاء في أمر دينه، الإسلام يحترم خصوصيات الناس ولا يتدخّل في ما يخصّ معتقدهم أو مأكلهم أو ملبسهم أو حياتهم الأسريّة ، والسؤال هو لماذا الدولة تتدخّل في كلّ ذلك؟إنّ تدخّل الدولة في تلك الخصوصيات هو تماما كتدخّل طرف ديني باسم الإسلام لفرض شكل معيّن على الناس ، والدولة الّتي تؤمن بها النهضة هي الدولة التي لا ترضى لا بهذا ولا ذاك ، هي الدولة التي تحمي حقوق الناس وخصوصياتهم وهي الدولة التي تجعل مهمّتها الأساسيّة هي الاهتمام بالشأن العام الّذي يتشكّل عبر التدافع والحوار بين الناس ، وهي الدولة التي تسعى إلى ترجمة الإرادة العامّة عبر السياسات الصحيحة وآليات الحكم الرشيد أي آليات الديمقراطية وليس عبر الدكتاتوريّة والانفراد بصناعة القرارات.إنّ العلاقة بين الدولة والدين هي علاقة تعاون وليس علاقة إكراه أو إلزام ، نستطيع أن نقول بكلمة أخرى إنّه إذا كان قادة الثورات في أوروبا ثاروا ضدّ الكنائس من أجل تحرير الدول والعقول من الدين فإنّ الثورة في العالم الإسلامي تريد أن تُحرّر الدين من سلطة الدولة، لقد تلبّست الدول العربية بالدين ووظفته كيف ما شاءت وكان لا بُدّ من تجريدها من هذا السلاح.فعلمانيّة بورقيبة –مثلا- لم تكن مثل علمانية فرنسا ، لقد فعل بورقيبة ما لم تفعله العلمانية الفرنسيّة مع انها كانت من أقسى العلمانيات في أوروبا ، فأوّل ما فعله بورقيبة هو إغلاق جامع الزيتونة وهذا في رأيي عمل فاشيستي ، لماذا في أوروبا بقيت للكنائس مؤسساتها التعليمية وبقيت لها اوقافها ، بينما العلمانيون عندنا لبسوا عمامة الاجتهاد الديني وهم لا يؤمنون بالدين أصلا ، فبورقيبة الذي اعتبر نفسه مجتهدا سخر من الدين وأباح إفطار رمضان.وصادر الاوقاف وشطب مؤسسات التعليم الاسلامي العتيدةهذه الاعتبارات تجعل الموقف العلماني الّذي يُطالب بتحييد الدين عن الدولة أقرب إلى التعايش مع الإسلام وليس الموقف العلماني المنافق:فبأيّ حق الدولة هي الّتي تُعيّن الأئمة وتتحكّم في التعليم الديني؟.وممّا أذكرهُ في محاكمات ما سمي بالمؤامرة سنة 1962 أنّه ورد في حيثيات الحكم ضدّ الشيخ الشهيد أحمد الرحموني:»رحمه الله ..وحيث أنّ المتهم سمح لنفسه أن يُفسّر القرآن خلاف ما فسّره فخامة الرئيس»، هذا ليس صوت حاكم علماني ، ما علاقة الرئيس بتفسير القرآن؟ لماذا الدولة تتدخّل وتُحاول فرض تصوّر معيّن للإسلام بذاته على المواطن؟.الحركة الإسلاميّة أكثر علمانيّة من بورقيبةومن هذه الزاوية يمكن اعتبار الحركة الإسلاميّة أكثر علمانيّة من بورقيبة لأنّها لا تُريد فرض وصاية على الدين ولا وصاية على الدولة.أنا شخصيا رفضت مُقترحا قدّمه الإخوان المسلمون في مصر تضمّن ثلاث نقاط منها الخطير جدّا وهو المطالبة بتشكيل هيئة علميّة دينيّة تقوم بدور الرقابة على البرلمان لضمان أن لا تتناقض القوانين والتشريعات مع الإسلام ، عارضت هذا المقترح وعدل عنه أصحابه لأنّه لا وصاية على ممثلي الشعب. نحن ضدّ أن تُمارس فئة معيّنة وصاية على الدين ونحن كذلك ضدّ أن تُمارس الدولة وصايتها على الدين ، الدولة مجال للتدافع السلمي بين مختلف التيارات وتعكس التيار الأوسع في المجتمع لترجمة سياساتها وخيارات الشعب مع ترك الأقليّة تعيش قناعاتها ، وعلى المستوى التشريعي فالدولة ستعكسُ التوجّهات الكبرى للرأي العام وكلّ سياسة لا تُخالف الإسلام فهي سياسة إسلاميّة فالرأي العام هو الضامن لعدم تصادم السياسات والبرامج مع الإسلام ، فالرهان الأساسي تجاه الرأي العام. ونحن على قناعة بأنّ حكم الفرد هو سبب كلّ ما حلّ ببلادنا من مصائب، لذلك اتخذنا قرارنا بالنضال من أجل حكم برلماني يكون بديلا عن الحكم الرئاسي حتى يجتثّ تراث الاستبداد والتفرّد الّذي استشرى منذ العهد البورقيبي وعبر تاريخنا لأنّنا نثق في الشعب وقدراته على صناعة مستقبله، نحن نريد للسلطة أن تتوزّع على أوسع نطاق وأن تنزل إلى تحت بدل أن تصعد إلى فوق ، نريد سلطة واسعة لمؤسسات الحكم المحلّي وأن تكون الهياكل والمسؤوليات منتخبة فالانتخاب هو القاعدة».
خالد الحدّاد
عن جريدة الشروق