لا يتجاوز عدد "العشابة" الأصليين الذين توارثوا المهنة الأب عن الجد أربعة تجار
- لم يختص سوق البلاط في بيع مادة معينة واشتهر مع ذلك بتجارة الأعشاب
- طقوس سكب الماء وطلاء كعب الطبي بدم الحرباء وذرّ الملح فوق الرأس سبع مرات من أجل حسن طالع الحظ ودرء السحر والحسد
زقاق ضيق تدب فيه الحركة منذ بزوغ الشمس... يقصده من كل صوب النساء والرجال والشباب والسياح الأجانب .. هذا يقف على باب أحد الدكاكين مستفسراً عن نبتة جبلية وآخر يتساءل بقاع الدكان عن قيمة حشائش ما وأخريات تبحثن عن خلطة أعشاب تصلح لأمور "التابعة " و"التعطيل" و"السعد".. وغيرهم كثيرون.. بـ"التجربة" ثبتت جدوى ما يقدم للزبائن في "سوق البلاط"، أشهر سوق مختص بتونس في بيع النباتات الطبيعية، والأعشاب والزواحف التي تساعد على علاج الأمراض المستعصية مثل العجز الجنسي وحالات العقم والسرطان وإزالة السحر ورفع العراقيل...
ويقع هذا السوق في أدغال المدينة العتيقة، ولا يتيه قاصده مع ذلك عنه..فإذا كنت قريباً من جامع الزيتونة المعمور الكائن في قلب المدينة يمكن أن يدلك عليه "أبناء البلد" بسهولة أما إذا كنت في العاصمة فيمكن أن تدخله من " نهج الصباغين" أو عبر ما يعرف بـمكان "مدق الحلفة" ... ويحمل "سوق البلاط" خبايا وأسراراً منها ما يعلنه التجار ومنها ما يخفيه ...أما تاريخه فضارب في القدم وأنشطته غريبة جداً...
تاريخ السوق معقد وأنشطته متلونة
فلم يكن هذا السوق متخصصاً في مبيعات معينة بل إنه مثّل مكاناً لأنشطة متنوعة وجمع العديد من السلع من ملابس مستوردة وتحف منزلية، والتوابل والصابون والأواني المنزلية وغيرها وذلك هو شأنه اليوم. وحسب شهادة السيد علي الرحال (من مواليد 1919) كان سوق البلاط في الخمسينات خليطاً من الدكاكين ولم يختص في بيع مادة معينة( قصابون بائعو حوت وغيرهم) ولم توجد تجارة الأعشاب لغير عدد من العائلات على غرار "علي بحر وسالم بحر" و"عائلة سعادة" و"أحمد الفيتوري" ورجل سوداني وأسرة" ترشت" التي تركت المهنة والسوق بعد وفاة عائلها الأب (صاحب الدكان).
ومع ذلك ظل المكان يعبق بالروائح الطيبة المنبعثة من البخور والإكليل الجبلي والزهور المجففة وغيرها من الأعشاب المحلية والمستوردة. ويشهد لأهل السوق بانفرادهم بالدراية الواسعة في تجارة الأعشاب الطبية التي توارثت خبرتها عبر الأجيال. فالتجار يدركون بجدية الأعشاب والعقاقير التي يروجونها ويستعينون بالكتب المختصة للتداوي ككتاب
"المعتمد في الأدوية المفردة" للتركماني وكتاب
" تذكرة أولى الألباب والجامع للعجب والعجائب" لداود الأنطاكي ومؤلفات ابن سيناء وغيرها.
وتوجد عديد الآراء حول تاريخ السوق ونسبتها، فهناك رأي يقول بأن السوق تعود إلى فترة الأغالبة أي القرن الثالث هجري (التاسع ميلادي) وآخر يقول إنها اتخذت هذا الاسم خلال حكم بني خرسان في أوائل القرن السادس هجري (الثاني عشر ميلادي) وهكذا فإنها نسبت إلى البلاط الذي فرشت به أرضيتها. وتوحي كلمة بلاط من منظور آخر بقرب بلاط بني خرسان وقصرهم أي مكان حكمهم من مكان السوق. كما هناك من يقول إن هذه السوق تعود إلى فترة بناء " الكتبيين "حيث يذكر بأن الفترة الحسينية اشتهرت أيضاً بعدد من البناءات فشيد حسين باي (1117-1153 / 1705 -1740) "سوق السكاجين" و"سوق السراجين".
ويوجد جامع يتوسط هذه السوق عند نهاية القسم غير المسقوف وبداية من القسم المسقوف أي في الزاوية الجنوبية في نقطة التقاء " نهج الكنز" و"سوق البلاد" وهو الجامع الإشبيلي ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع هجري (القرن العاشر ميلادي) وله محراب مزخرف بالفسيفساء (الحرش) الملون على غرار قبة البهو بجامع الزيتونة وترجع الواجهة على الصحن إلى القرن الرابع الهجري، أما الصومعة فهي أحدث عهداً إذ ترجع إلى القرنيين السابع والثامن هجري كما توجد نقيشة على واجهة الجامع تحمل نفس التاريخ أي القرن الرابع. كما توجد في السوق خلوة سيدي أبي الحسن الشاذلي (على مستوى آخر نهج المطيرة) وقد كانت محلاً للشيخ الذي توفي سنة 353 هجري (964) ميلادي.
ويرى بعض الباحثين أن هذه السوق لعبت دوراً هاماً في عصر الدولة الحفصية وقد كانت الأعشاب والأزهار التي يستعملها تجار العطورات لتقطير بعض العطور والرياحين تستورد وكانت سوق البلاد مركزها الأساسي. كما يؤكد هؤلاء الباحثون أن السوق قد اختصت في بعض الفترات وفي بعض أقسامها ببيع الأعشاب الطبية والعقاقير حيث يذكر المؤرخ محمد بن عثمان الحشايشي (1853-1912) في كتابه " العادات والتقاليد التونسية: الهدية والفوائد العلمية في العادات التونسية" في الحديث عن أمراض الأطفال أنه "عند إصابة الأطفال بسعال تعاجله العجائز ببعض الحشائش تباع في سوق البلاط وأنواع شراب ولُصق توضع على الصدر من زرّيعة الكتان ( أي بذرة الكتان)".
ولم يتم التعرض إلى نشاط السوق إلا في قرار الوزير الأول المؤرخ في 21 جانفي 1937 إذ كان النص الوحيد الذي يضبط ضمن قائمة الحرف والمهن والصناعات التقليدية التي تمارس في الإيالة مهنة بيع الأعشاب الطبية.
في ثقافة التونسي.. آخر الطب الأعشاب
ويرتاد السوق التونسيون من مختلف الطبقات الاجتماعية والمستويات العلمية بغرض اقتناء بعض الأعشاب والعقاقير والمواد الأخرى سواء للتداوي أو لأغراض أخرى.. ويقول التاجر عبد الرزاق بحر ويفوق عمره 65 سنة أن التونسي يتداوى بالأعشاب بعد أن يكون قد جرب من الأدوية الكيماوية ويأس منها. ويؤكد خلو الأعشاب من أي ضرر باعتبارها طبيعية مئة بالمئة وهي تُجلب من مختلف أنحاء البلاد حسب البيئة (الوسط والشمال الغربي والجنوب) ويتزود "العشّاب" بالحشائش مرة كل سنة.
ويقدر سعر حزمة الحشائش بـ500 مليم تونسي (أقل من نصف دولار) أما سعر العقاقير والزيوت فيصل إلى 20 ديناراً فما أكثر بالنسبة إلى بعض الزيوت (13 دولاراً تقريباً). وتعتبر الأمراض الأكثر شيوعاً: روماتيزم المفاصل والجهاز التنفسي والحلق والحنجرة والأعصاب والسكري والأمراض الجلدية والكلى وضغط الدم إلى جانب أمراض العقم والعجز الجنسي. كما يباع في السوق البخور ومواد الصباغة وتصبير اللحوم.
وتعمل السوق بالحيوية نفسها على مدار السنة، فحسب محدثنا عبد الرزاق بحر لا تكف طلبات الحريف من الجنسين صيفاً وشتاءً ففي شهر رمضان المعظم يطلب فيه الزبون أعشاب علاج أمراض المعدة وفي الموسم الصيفي يقصد البعض من أفراد الجالية التونسية المقيمة بالخارج السوق للتزود بأعشاب يحملونها عند العودة إلى بلد الإقامة. ويشترى السياح الأجانب غالباً " جوز الطيب " و" الزهور المجففة" لاستعمالها في طبخ بعض الأطباق الشرقية.
وتوجد في السوق المواد التي تستعمل للسحر وإبطاله من ذلك "عش العصفور" و" أم البوية" (الحرباء) و"القنفد" و"السلحفاة" و"طائر التبيب" و"الهدهد" و"الشفشة"(السنجاب ذو الرائحة الكريهة). وهي مواد تستعمل عادة لأغراض سحرية أو للتخلص من "التابعة" ودرء الحسد والعين الشريرة.
وعادة ما يكون استعمالها مثلما جاء في دراسة علمية بحثية (اختصاص تراث وآثار) أعدت حول تجارة الأعشاب الطبية في سوق البلاط (1998-1999) مرتبطاً بممارسة طقوس معينة كسكب الماء وراء المسافر أو من يخرج لقضاء حاجة هامة أو ذرِّ الملح فوق الرأس سبع مرات ثم حرقه أو رميه لتخليص صاحبه من "التابعة" أو تعليق "ذيل السمكة " و"الخمسة" و"السبحة" و"صفائح الخيل" و"قرون الخروف" أو تربية السلحفاة درءاً للحسد والعين أو طلاء كعب الطبي بدم الحرباء بعد ذبحها حتى لا يؤثر فيه السحر طوال حياته وتجفيفها وتعليقها في شبابيك البيوت حتى لا يدخلها السحر وغير ذلك .
وتروج في السوق خلطة بخور لإبطال مفعول السحر تسمى "البطول" تتكون أساساً من "الداد" و"الملح" و"التابل" و"حب الرشاد" و"جلد الحرباء" و"جلد السلحفاة" وغيرها. وهناك من "العشّابة" من يتعامل مع العرافين فيما يرفض البعض الآخر بيع أعشاب السحر وهم من مناصري مسألة تطهير السوق من المشعوذين والدجالين. وكثيراً ما يستظهر وفق تصريحات مختلفة لعدد من "العشابة " الحرفاء بوصفة حاضرة في قائمة في العقاقير طلبها عرّاف، أو ورقة سجل عليها الحريف بنفسه أو أحد أقربائه بعض أسماء الأعشاب والنباتات.
تعدد الأسواق والدخلاء...
ويسجل التاريخ أن تجارة الحشائش أو الأعشاب كانت في الفترة الممتدة من 1934 إلى 1953 (عهد الحماية) خارج سوق البلاط حيث ازدهرت في محلات بيع الأعشاب الطبية بأماكن عديدة من المدينة وقد انتشرت هذه الدكاكين في مختلف أحياء المدينة العتيقة والحديثة من "نهج اراقو" إلى "نهج مرسيليا" و"نهج فبركات الثلج" و "نهج البرتغال".
وقد لاحظ باحثون تراجع تجارة الحشائش على مستوى سوق البلاط في ما بعد الاستقلال. لكنها استعادت بعض ازدهارها في السنوات الأخيرة وتعددت دكاكين بيع الأعشاب الطبية لتشمل قسماً من "نهج الصباغين". كما أنها انتشرت في محافظات "سوسة" و"صفاقس" و"القصرين" و"قابس" و"صفاقس" و"بنزرت".
ويتراوح رأس مال فتح دكان بيع الحشائش حسب الدراسة البحثية التي أعدت حول تجارة الأعشاب الطبية في هذا السوق ما بين 500 و2000 دينار تونسي (390 و1560 دولاراً).
ولا يتجاوز عدد التجار الأصليين الذين توارثوا المهنة الأب عن الجد أربعة تجار. ويشتكي هؤلاء من الدخلاء الذين يدّعون المعرفة. العشاب بدر الدين الفورتي البالغ من العمر 45 سنة (اختصاصي في جميع الأعشاب الرعوانية والحكيمة وفي معالجة العجز الجنسي والشقيقة وبيع جميع البخور النفسي) يقول: إن " التاجر الأصيل بهذا السوق هو ذاك صاحب الخبرة الواسعة لأنه ترعرع بين الحشائش وهو متشبع إلى النخاع في مختلف أطوار هذه المهنة". ويملك الفورتي مراجع كتب قديمة شرقية وألمانية ونسخة من مخطوط باليد قديم جداً في طب الأعشاب وجدوى الكثير من الحشائش وتداولها بمختلف اللهجات العربية كان ورثها عن أجداده.
وتورّد النباتات التي لا تنبت بالبلاد التونسية والعقاقير والبخور رسمياً و بشكل غير رسمي من المغرب والسودان ومصر والمملكة العربية السعودية واليمن والأردن والهند وفرنسا وغيرها مثل (بنت السلطان، سن الهرم، صفوف الأسود، وغيرها).
ويفتقر "سوق البلاط" أمين خاص بتجارة الأعشاب مثلما عرفته منذ نحو 49 سنة حسب شهادة التاجر عبد الرزاق بحر الذي يثبت وجود أمين في الفترة ما بين 1958 و1961 للتثبت من جدوى البضاعة المروجة وصلاحيتها للمقاصد التي بيعت من أجلها.
ولا يأسف رواد السوق لعدم وجود أمين وإنما تشغلهم الفوضى وانعدام التنظيم جراء تزايد أعداد الدخلاء في السوق والأسواق التي تحاذيه.
(خاص الأزمنة : تونس- فاطمة زرّيق )