بسم الله الرحمان الرحيم
أبدأ على بركة الله بإنزال مذاكرة إسبوعيا من مذاكرات مولانا الإمام شيخنا إسماعيل الهادفي قدس الله روحه
وأستهلّها بالمذاكرة الأولى وهي قوله تعالى:
واُذكر اُسم ربّك وتبتّل إليه تبتيلا:
قال رضي الله عنه:
جاء في الـتّوصيات القرآنية الحكيمة قوله تعالى:
{واُذكر اُسم ربّك وتبّتّل إليه تبتيلا. ربّ المشرق والمغرب لا إلاه إلاّ هو فاُتّخذه وكيلا. واُصبر على ما يقولون واُهجرهم هجرا جميلا} ( 10 المزمل)
هذا الخطاب له صلى الله عليه وسلم ولكنه عامّ كذلك لأمّته .
وقد اُشتملت هذه الآية على خمسة أوامر أوّلها قوله تعالى: {واُذكر اُسم ربّك} والمراد اُسم الذّات وذلك أخصّ في
بيان ذكر الإسم المفرد (الله) ولو قال وأذكر ربّك لشمل كل معاني الذّكر من تسبيح وصلاة وقراءة قرآن..
وهذا الأمر يتضمّن كذلك الإكثار من الذّكر وإن ورد هنا مطلقا وغير مقيّد لكنّه ورد في آيات أخرى كثيرة تنصّ على الكثرة كقوله تعالى: {واذكر ربّك كثيرا وسبّح بالعشيّ والإبكار} (41 آل عمران)
وقوله: {يا أيّها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكرا كثيرا} (41 الأحزاب )
وقوله:{والذّاكرين اللّه كثيرا والذّاكرات أعدّ اللّه لهم مغفرة وأجرا عظيما}(35 الأحزاب )
وفي الحديث القدسي:’’أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه‘‘(رواه البخاري).
الأمر ثاني قوله تعالى: {وتبّتّل إليه تبتيلا} أي أنقطع إليه انقطاعا كلّيا عمّن سواه حتى لا تترك مجالا لخاطر غير الله ومنها قيل لمريم عليها السلام البتول حيث لزمت المحراب وتفرّغت لله تعالى، فعلى الذاكر أن يتوجّه لله سبحانه وتعالى بالذّكر والإنقطاع إليه إنقطاعا كلّيّا عمّن سواه حتى لا يشغله شاغل عن ذكره لأنّ في الحقيقة كلّ ما شغلك عنه فهو أحبّ إليك منه فلو كان الله أحبّ إليك من الشّاغل ما كان شغلك عنه، فالواجب على المريد حين الذّكر الإنقطاع الكلّي إليه والأولى من ذلك الإنقطاع إليه في سائر الأوقات حتّى لا يشغل قلبه بشيء دون الله، فحين يقول المريد ,,الله،، يكون قلبه حاضرا مع الله. لأنّ الخواطر تحجب المريد ولا تتركه يسير ويبقى مدّة طويلة وهو في مكان واحد، ومن هنا يتعيّن على المريد أن يخصّص وقتا يشتغل فيه بذكر الله والاشتغال بالخواطر سوء أدب مع الله .
الأمر الـثّالث قوله تعالى: {ربّ المشرق والمغرب لاإلاه إلاّ هو فاُتّخذه وكيلا} فزيادة على التّوجّه إليه يأمرنا بالتّوكّل عليه وهو المتصرّف بالاختيار في الوجود كلّه الفوق والأسفل لقوله تعالى: {وهو الذي في السّماء إلاه وفي الأرض إلاه وهو الحكيم العليم} (84 الزخرف). وهو إلاه في المشرق كما هو إلاه في المغرب بحيث الألوهية اُستغرقت كلّ الأزمنة والأمكنة لاإلاه إلاّ هو المتصرّف وحده والمفوّض علينا في جميع شؤوننا وقضايانا. وهذا الأمر واجب على جميع المؤمنين الإيمان به ويتحتّم ويتأكّد بالنّسبة للذّاكر أكثر فيجعل من الله عزّ وجلّ وكيلا مفوّضا عليه في جميع شؤونه الدّينية والدنيوية {فستذكرون ما أقول لكم وأفوّض أمري إلى الله إنّ الله بصير بالعباد} (44 غافر)
{فاُعبده وتوكّل عليه وما ربّك بغافل عمّا تعملون} (124 هود) ومن توكّل عليه كفاه .
وفي قوله تعالى: {وتبّتّل إليه تبتيلا} وهو الانقطاع الكلّي فربما يقول قائل إنّ الانقطاع الكلّي يضيّع المصالح أعقبه تعالى بقوله: {فاُتّخذه وكيلا} لـيبطل هذا القول، ويساق المؤمنين في سياق الذّمّ في عدم توكّلهم عليه بقوله في آية أخرى {وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين} (23 المائدة) فقد نزّل إيمانهم بمنزلة الأمر المشكوك فيه وعبّر بــإن المفيدة للشّكّ في وقوع الشّرط وذلك لعدم توكّلهم عليه حقّ التّوكّل ،فمن توكّل عليه كفاه مهمّاته.
الأمر الرّابع قوله تعالى: {واُصبر على ما يقولون}
فالمريد حين يتوجّه ويقبل على اللّه وينقطع إليه يدخل في حصانة اللّه لقوله تعالى: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربّك وكيلا} (65 الإسراء ) وهذا الشّيء لا يرضي الشّيطان طبعا ولا يقبله فيعمل جاهدا على إفساده ويكيد له المكائد ويبحث له عمّا يحول بينه وبين المذكور عزّ وجلّ حتّى لا يتمـتّع الذاكر بتلك الحصانة الموعودة فلمّا ييأس من رجوع الذّاكر إليه يفزع لجنوده من الإنس والجنّ ليفتنوه بالكلام اللاّذع كقولهم إنّه من جماعة ,,الكتّه،،وأنّه يخدع الـنّاس بالسّبحة واللّحية... ولهذا أوصانا بالـصّبر على ما يقولون، والحمد لله لم يقل ,,واُصبر على ما يفعلون،، وإلاّ لزمنا الـصّبر حتّى على ضربهم إيّانا وإخراجنا من ديارنا.
الأمر الخامس:{واُهجرهم هجرا جميلا}
فالواجب الهجران الجميل الذي لا إذاية معه.
قال شيخنا رضي الله عنه : (مانفـسّدش أخلاقي باش نصلّح أخلاق الاخرين)
والهجر الجميل هو الذي لا إذاية معه.
والصّفح الجميل هو الذي لا عتاب معه.
والصّبر الجميل هو الذي لا شكاية معه.
فإذا وقع تنكير عليك أو كلام لا يعجبك فكن محمّديّ المقام وقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ’’اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‘‘ وقل له: اللّه يهديك ويسامحك، وتمرّ مرّ الكرام عملا بقوله تعالى: {وإذا سمعـوا اللّغـو أعرضـوا عنه وقالـوا لنا أعمالنا ولكم أعمالـكم سـلام عليكم لا نبتغـي الجاهلـين} (55 القصص)
{وإذا رأيـت الّذين يخوضـون في آياتنا فأعـرض عنهم حتى يخوضـوا في حديـث غيره وإمّا ينسينّـك الشّيطان فلا تقعـد بعـد الذّكـرى مع القـوم الظّالمـين} (68 الأنعام )
{وعبـاد الرّحمـان الذيـن يمشـون على الأرض هـونا وإذا خاطبهم الجاهلـون قالوا سـلاما}(63 الفرقان ).
يقول القائل ما هو الدّاعي للتّحريض على الإكثار من الذّكر والانقطاع فيه انقطاعا كلّيا؟
لأنّ مقصود الحقّ منّا هو صقل مرآة قلوبنا من مخلّفات المخالفات والمعاصي فالقلب مفتاح
الملكوت ومفتاح الجبروت فلا يلجهما إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم.
في عام 1963 أذنّا فقير في الإسم، ثمّ زار في السّبعينات فوجدته دار لـقمان على حالها، قلت له: هل تذكر؟ فأجابني بأنّه مواظب على الذّكر سبعين مرّة يوميا، فقلت له: إنّ المطلوب من المريد هو الذّكر بدون عدد وبلا هوادة، وقد بيّن اللّه لنا في القرآن كيفية الذّكر بقوله تعالى: {واُذكر اُسم ربّك وتبتّل إليه تبتيلا . ربّ المشرق والمغرب لا إلاه إلاّ هو فاُتّخذه وكيلا . واُصبر على ما يقولون واُهجرهم هجرا جميلا} ( 10 المزمل) والـتّبتّل هو الانقطاع الكلّي للّه عزّ وجلّ في حالة الذّكر إنقطاعا حسّيا واُنقطاعا معنويا. الانقطاع الحسّي عن جميع العلائق التي تحول بينه وبين الذّاكر من حيث الزّمان والمكان والشّأن، فحينما طلب المولى منّا الذّكر لم يقيّده بزمان ولا بمكان ولا بشأن قال تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا اُذكروا اللّه ذكرا كثيرا} (41 الأحزاب ) فالآية سدّت أبواب التّعلّة للنّفس...
ولا محالة الذّكر على أيّ وجه من الوجوه له أجره وهذا معتبر عند العبّاد ولكن الصّوفي إعتباره في الحال لا في المقال، فهو يشاهد نفسه كيف يعرج باُنقطاعه إلى اللّه، فإن لم يكن هكذا فهو رهين نفسه وهي تلعب به وتستدرجه...
والإنقطاع المعنوي أو الإنقطاع الكامل هو انقطاع القلب عن كلّ ما يشدّه ويحجبه عن الله وأوّلها الخواطر، وبهذا الإنقطاع يصفو القلب وصاحبه يشاهد أحواله كيف تسمو وتتحسّن... وهذا هو الذّكر المعتبر قال رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم: ’’إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم،، (رواه مسلم)..
إن كان الذّكر مجديا والـذّاكر عاملا بمقتضى نصائح الذّكر فهو في زيادة ولسنا نلعب أو نقول لغوا أو هذيانا، فالطّبيب يعطي الدّواء والحمية والتطبيق على المريض، فالحمية للحيلولة من زيادة الرّان المتكوّن من المخالفات الشّرعية فيعاهد على تقوى اللّه ظاهرا وباطنا بأن يأتي المأمورات قدر الإستطاعة ويجتنب المنهيات تماما. والدّواء يتمـثّل في إعطاء الفقير الأذكار ويذكر بدون حصر أو تقيّد بظرف من الظّروف على الـنّحو الذي يؤمر به وهو تشخيص الإسم ومشاهدته مرسوما على لوحة الكائنات بعين البصيرة والقلب، ولهذا سرّ عظيم وهو عدم هجوم الخواطر عليه ثم إبعاد كلّ ما خطر منها. وهذه مهمّة الشّيخ.
يصحب شيخا عارفا بالمسالك ويقـيـه في طريقـه المهالـك
فيحدوه العزم والحزم إلى اللّه حتّى يصل لساحل النّجاة في سلام.
قال تعالى:{الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّـه ألا بذكـر اللّـه تطمئـنّ القلوب} (28 الرعد) أمّا من يذكر اللّه وقلبه منشغل بالخواطر فهو يظنّ أنّه يذكر ولكنّه في حقيقة الواقع هو في حصّة تفكّر في شؤونه وخواطره، (ويصبح حاله كحصان الوقيدة وبغل الطّاحونة). وبهذا يتمـيّز الفقراء سرعة وبطءا في السّير .
وهذا الشّخص الذي عرّضنا به له أخ دخل الطّريق بعده بثلاث سنوات أو أربع وعمل بالتّوصيات فلم يبق ثلاث سنوات حتى ذاكرناه في الفناء والبقاء وهو اليوم في شأن وحال عظيم مع الله والحمد لله.
قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين} (69 العنكبوت )
ومن تفكّر في الدّنيا يبقى هناك دار لقمان على حالها .
فمن كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة، ومن لم تكن له بداية لم تكن له نهاية.
جاء أحد إلى سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه وقال له:
أنا معك ثلاثين سنة ولم يتحسّن حالي مع الله، أي لم يبلغ المقامات التي يتحدّث عنها شيخه فقال له: ,,راك يا سيدنا ثلاثين سنة مع لحيتك،، وكان لهذا الفقير لحية جميلة وهو شديد الولع بها ...
وفي عالم الـرّؤيا رأيت شيخي رضي الله عنه ومعه أخي سيدي أحمد وهو الآن من الأمـوات رحمه اللّه شاكيا بي وقال: لم يعرج بي، فقلت له:,,يا بابا إنّه لم يتوجّه لي،، ومع ذلك فهو شقيقي إبن أمّي وأبي. فالطّريق لمن صدق لا لمن سبق، ولا لمن قرب من حيث النسب، سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من آل محمد ؟ فقال : ’’كل تقي‘‘ وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {إن أولياؤه إلا المتقون} (رواه الطبراني في المعجم الصغير). وإنّنا ننصح كلّ فقير بصدق، فمن أخذ التّوصيات بجدّ واُجتهاد يفوز إن شاء اللّه، ومن يسمعها ويجعلها كلام لا غير وتشدّه نفسه إليها فقد اختار إرضاء نفسه ويدخل تحت قوله تعالى: {ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعا أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين}(99 يونس) {وآخرون اُعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا عسى اللّه أن يتوب عليهم إنّ اللّه غفور رحيم} (102 التوبة ).
وربّ يوفّق الجميع لدوام ذكره والانقطاع إليه كما أمر إنّه السّميع المجيب،آميــن.
*********************************
من كتاب بغية السالكين ومنهج العارفين
_________________
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
المصدر: منتدى الصفاء