بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه وبعد:
كيف نقرأ في كتب التصوف؟
مما يسبب الاختلاف بين المسلمين في الحكم على كلام أهل التصوف ومما يزيد هوة الخلاف والاختلاف بين أهل الحقيقة وأهل الشريعة هو عدم ملاحظة الطريقة التي كتبت فيها كلا من كتب التصوف والفرق بينها وبين كتب علوم الشريعة والظاهر ولذلك أحببت أن أنبه إخواني القراء الأفاضل ما هي القضايا التي يراعونها عند القراءة في كتب التصوف كيف يفهمون كلامهم لنساهم ولو طرفا بسيطاً بردم الهوة بين الفريقين وللمساعدة في فهم كلام اهل التصوف.
وللتمييز بينهما لا بد أن نلاحظ النقاط التالية:
أولاً: اللفظ والمعنى
معلوم في العربية أن الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني فكل لفظ يدل على معنى معين موضوع له في الحقيقة وأن استعمال اللفظ في غير ما وضع له في الحقيقة يسمى مجازاً وعليه ويعتمد مدى فهمك للنصوص على مدى فهمك وتصورك للألفاظ الموضوعة للمعاني ومعرفة العلاقات بين هذه الالفاظ لتحدد من خلال هذه القضايا اللغوية المعنى المراد من اللفظ وهذا الأمر هو من أهم الأمور للفهم والاستنباط وتحديد المعاني المراده وهنا يختلف الاجتهاد الاصولي بين المجتهدين في بيان المراد من الالفاظ المستخدمة ودلالة هذه الالفاظ على معانيها بل وجعلوا بابا في الأصول يعنى بدلالات الالفاظ مع أنه هذه المسألة في الأصل لغوية ولكنها هي الأصل في مفهم النصوص الشرعية والضابط لمعرفة المرادات الشرعية.
ما نريد أن نقرره بعد هذه المقدمة أنك في قراءتك في كتب الشريعة أو الظاهر فإن اللفظ الذي يكتب هو الأصل في فهم المعنى المراد، ويحاكم النص على أساس الالفاظ المكتوبة لأنها هي الأصل في الدلالة، ولذلك لا بد أن تراعى الدقة في الالفاظ الموضوعة للمعاني المرادة، لأنها هي التي تحدد مراداتك.
وأما في كتب التصوف فالامر مختلف تماما والقراءة تكون معكوسة لأنه ليس المراد من كتب التصوف هو بناء الاحكام الشرعية التكليفية التي هي حقيقة خارجية ملموسة
بل التصوف فهو حقيقة روحية داخلية ولذلك لا تجد له تعريفا واحد وما اتفقت كلمة العلماء على تعريفه حتى الصوفية انفسهم كل واحد منهم ذكر تعريفا مخالفا للآخرين للتصوف، بل ترى أغرب من ذلك قد تتفاوت التعاريف للرجل الواحد وهذا ليس تناقضا، كما فعل ابو نعيم حيث ذكر أكثر من ثلاثمائة تعريف للتصوف فجعل في كل ترجمة تعريفا للتصوف على حسب الكلام عن صاحب الترجمة والحال الذي يغلب عليه في ترجمته.
وذلك لأن هذه التعابير لا تنبع من قاعدة منضبطة كما هو الحال في علوم الشريعة بل ينبع الكلام عن الحقائق في كلام اهل التصوف من الفيوضات والتجليات وهي أحوال تختلف من وقت لآخر لأنه حقيقة روحية داخلية غير ملموسة ولذلك يعسر ضبطها بمعنى واحد وهي بعد ذلك تتخذ تجليات مختلفة فتظهر في صورة مسلك عملي وتوجيه خلقي أو تبدو في مجلى تعبير فني أو نتاج أدبي أو تتخذ صيغة النظريات والمبادئ الفكرية سواء كانت روحية نفسية أو فلسفية ميتافيزيقية وهي أحيانا تتجلى في هيئة حركة إصلاحية وخدمات اجتماعية فمن الطبيعي إذن ان تتعدد صور التعبير عنها وتتنوع وأن يعسر ضبطها.
فكلام أهل التصوف الأصل فيه المعنى واللفظ تابع له، ولذلك علينا محاكمة أقوالهم من خلال المعاني المرادة لا محاكمة كلامهم من خلال الفاظ مقولة.
ولكن قد يقول قائل وكيف نفهم معاني كلامهم إن لم نحاكمهم من خلال الفاظهم؟
قلت: صحيح أنه تحاكم المعاني من خلال الالفاظ التي يقولونها ولكن لا بد من استقراء مجموع الألفاظ التي يقولونها ثم محاولة فهم المعنى من خلال هذه الالفاظ.
أما ان نحاكمهم من خلال بعض الالفاظ مع ان هناك الفاظ اخرى تخالفها ولا تدل على نفس المعنى فهذا تحكم واضح .
ففي كتب الشرع لو جاء لفظ صريح من شخص يحاكم عليه حتى لو قال لا اقصده لأنه صريح وإنما جعلت الالفاظ لضبط المعاملات بين الناس وحتى لا تضيع الحقوق بالتلاعب بالالفاظ ولكن هذا الكلام يختلف في كتب التصوف لأن الاصل فيها هي المعاني والالفاظ تبع لها فلو قال شخص منهم لفظة في ظاهرها البطلان لا نحاكمه على اساسها إن صرح أو قال في موضع آخر أني لا أريدها لأن الأصل وهو المعنى هنا ولا يهدم الأصل بالتبع وهو اللفظ هذا على العكس من كتب الشريعة الظاهرة فإن اللفظ هو الاصل والمعنى تبع له فلا يهدم اللفظ الذي هو الاصل بالمعنى الباطن الي هو الفرع فلا يقبل منه معنى آخر.
وهذه النقطة مهمة في فهم كلام أهل التصوف وفي المساعدة في القراءة في كتبهم وهذا يدلك على ما ذكرناه لك من أن التصوف حقيقة روحية داخلية لا تنضبط بزمام معين.
وبعض الناس يجعل الكلام مع ابن تيمية مثلا ومخالفاته ومحاكمة الفاظه كالكلام على الشيخ الاكبر ابن عربي ويقول مادام نحاكم ابن تيمية على ألفاظة لا بد من باب الانصاف ان نحاكم ابن عربي بنفس الطريقة وهذا خلط واضح في طريقة قراءة كتب التصوف وكتب الشريعة الظاهرة فعلى هذا الشخص أن يفرق في المحاكمة بين الشخصين، فلا يفهم الكلامين بنفس الطريقة.
وهذه التفرقه لا لأنه الشيخ الاكبر وذاك ابن تيمية بل لما ذكرنا من وجوه الاختلاف.
المسألة الثانية التي تساعدك في فهم كلام أهل التصوف هي:
طريقة الاستدلال:
فترى أن أهل التصوف تختلف طريقتهم عن طريقة أهل الظاهر في الاستدلال والاستنباط منطلقين في الفهم عن الله من الله لأن مبنى طريقهم من الأصل أنهم لا يرون أحدا مع الله تعالى فمن الطبيعي أن ينطلقوا منه سبحانه ولا يمكن أن نقول لهم لم لا تنطلقون من أدلة المتكلمين مثلا في الاستدلال والاستنباط للدلالة على الله تعالى ومعرفته سبحانه لأنك تكون بذلك نسفت أصل مذهبهم وهو انهم لا يرون أحدا مع الله تعالى كما قال عليه الصلاة والسلام ان تعبد الله كأنك تراه فهم يرونه ولا يرون أحداً معه فكيف تطالبهم أن ينطلقوا في الاستدلال مما لايرونه اصلا وهو المخلوق بل الخالق أظهر في نفوسهم من المخلوق فهم ينطلقون من الأظهر لإثبات الأخفى لا العكس.
وهذا بناء على ما غلب عليهم من أحوال وتجليات غاب معها وأضمحل كل موجود سوى واجب الوجود سبحانه.
وهنا نسجل كلمة مهمة في هذا الموضوع وهو أن كلام أهل التصوف الأصل في فهمه هو تذوق الأحوال والتجليات وقد ربط النبي صلى الله عليه سلم الفهم في هذه المسائل بالذوق فقال من ذاق عرف) فهي الأصل في كلامهم والالفاظ تبعا لها في التصوف على وجه الخصوص .
قد يقول قائل: هل يجوز ان نعتمد هذه الطريقة في الاستدلال والمعرفة؟
نقول الاصل في المسلم ان يبقي منضبطا في الطريقة الشرعية الظاهرة في الفهم والاستنباط والاستدلال إلا ان يتلبس بأحوالهم فلا ملام عليه عندئذ بشرط أن لا يخرج على الشرع صراحة بواحاً وهذا لا يحكم عليه من عبارة تطلق هنا أو هناك بل لا بد من تظافر المعاني من النصوص ولذلك نقول بأن طرق الاستدلال على الله تعالى ليس ملزمة بطريقة الأشاعرة أو الماتريدية مع أنها طريق حق بل يمكن ان يستدل الانسان على الله تعالى بغيرها مع ان الانسان غير مكلف بها.
وللحديث بقية إن شاء الله في مقالات أخرى.