إلى الضال الوهابي
للقاضي أبي حفص عمر ابن المفتي
قاسم المحجوب التونسي المالكي
رسالة علماء تونس المحميّة
إلى
الضال الوهابي
ملتزم الطبع
شركة دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع ش.م.م
الطبعة الأولى
1425هـ/2004ر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الناشر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى ءاله الطاهرين وصحابته الأخيار الميامين.
وبعد فإنه لما ظهر محمد بن عبد الوهاب النجدي أعاد ءاراء الخوارج ونشر معتقدات المجسمة وأضرم نيران الفتن التي لا تزال ذيولها تمتد إلى يومنا هذا، وأخذ ببعض بدع أحمد بن تيمية الحراني فكفر الأمة الإسلامية قاطبة فإنه كان يعتقد ويشيع أنه وأتباعه هم المسلمون فقط ومن خالف اعتقادهم فهو مشرك كافر لذا أباح دماء معارضيه، وهذه بلاد الحجاز والطائف والأردن تشهد على ذلك.
وقد كان والده وأخوه سليمان وكثير من المشايخ يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال كما سترى ضمن طيات هذه الرسالة. وأما أبوه فإنه كان غضبان على ولده محمد هذا وكان يقول: "يا ما ترون من محمد من الشر" نقل ذلك مفتي الحنابلة بمكة المكرمة الشيخ محمد بن عبد الله النجدي الحنبلي في كتاب "السحب الوابلة".
وقد هب علماء أهل السنة من وقته إلى يومنا الحالي لنصرة مذهب أهل السنة والدفاع عليه ما يزيد على المائة، إلا أنه وللأسف قد داهن الكثير من المنتسبين لأهل السنة اليوم بغرض ملء بطونهم بأموال أتباعه فخرج أكثرهم من دائرة الإسلام بسبب ذلك ومنهم عبد الرحمن دمشقية اللبناني صاحب السيرة المخزية في أحد المعاهد اللبنانية، ومنه الدكتور محمد سعيد البوطي، والدكتور وهبه الزحيلي الذي قدم بحثًا بمناسبة أسبوع محمد بن عبد الوهاب الذي عُقد في الرياض وادعى زورًا وبهتانًا أن ابن عبد الوهاب هو زعيم النهضة الدينية الإصلاحية المنتظر والذي على زعمه صحح موازين العقيدة الإسلامية، كيف ذلك وهو الذي شتت الأمة الإسلامية بل وكفرها.
وقد ختم الزحيلي بحثه بذكر ءاثار دعوة ابن عبد الوهاب بزعمه على العالم الإسلامي وانعكاساتها، والحق يقال إن انعكاسات دعوة هذا النجدي ظاهرة في مجازر الجزائر ومصر واليمن وغيرها من البلاد الإسلامية، وفي اغتيال من خالفهم وقتل الأطفال والأبرياء، وتفجير الحافلات، وتكفير مخالفيهم وإباحة دمائهم. أما ءاثارها فظاهرة أيضًا في سعي محبي المال زحفًا تحت أقدامهم وسكونهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغرض ملء بطونهم بالمال الحرام وحطام الدنيا الزائل.
من هنا أردنا طبع هذه الرسالة وغيرها إن شاء الله تعالى مظهرين للناس حقيقة دعوة محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، والله نسأل أن يوفقنا لنصرة دين الله تعالى ورد زيف المجسمة والمشبهة والملاحدة وغيرهم من أهل الضلال والاهواء
قال الشيخ أحمد بن أبي الضياف في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" ما نصه [1]: "وفي الرابع والعشرين من جمادى الثانية سنة 1229 تسع وعشرين ومائتين وألف [الاثنين 13 جوان 1814م] ورد البشير من الدولة العلية العثمانية بأخذ الحرمين الشريفين من يد الوهابي، وأعلنت مدافع الحاضرة سرورًا بذلك.
ولا بأس أن نلمّ بخبر هذا الوهابي:
وهو أن رجلاً يقال له محمد بن عبد الوهاب من تلاميذ [2] الشيخ ابن تيمية الحنبلي، منع زيارة القبور حتى قبور الأنبياء، ومنع التوسل بهم إلى الله تعالى، والبناء على قبورهم وصرّح بكفر من يفعل ذلك وسماه مشركًا زاعمًا أن الزيارة والتوسل عبادة وهي لا تكون إلا لله تعالى. وترامت بهذا الرجل الأسفار إلى أن استقر بالدرعية من أرض نجد فصادف بها ءاذانًا واعية، وقلوبًا من العلم خاوية"، ثم قال بعد أن ذكر أنهم استباحوا قتال المسلمين ونصبوا الحرب للمسلمين عمومًا ولأهل الحجاز خصوصًا وصدوا الناس عن بيت الله الحرام وزيارة قبر سيد الأنام، وعاثوا في أهل الحجاز القتل والنهب: "واستحكم هذا المذهب في قلوب أتباعه والتحموا به التحام النسب. واشتدت عصبيتهم وقويت، فطلبوا غايتها وهي الملك والسلطان، وأقاموا دعاة يدعون إلى مذهبهم مع رسائل وجهوها لآفاق المسلمين فوصلت منها رسالة للقطر التونسي نصها:
"بسم الله الرحمن الرحيم
نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شر أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يُضلل الله فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولا يَضُر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا أما بعد:
فقد قال الله تعالى: {قلْ هذهِ سبيلي أدعوا إلى اللهِ على بصيرةٍ أناْ ومنِ اتَّبَعني وسُبحانَ اللهِ وما أناْ من المشركين} [سورة يوسف/108]، وقال الله تعالى: {قُلْ إن كُنتم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعوني يُحبِبْكُمُ اللهُ ويغفرْ لكم ذنوبكم} [سورة يوسف/31]. وقال الله تعالى: {وما ءاتاكُم الرسولُ فخُذوهُ وما نهاكم عنهُ فانتهوا} [سورة الحشر/7]، وقال الله تعالى: {اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتْمَمتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ دينًا} [سورة المائدة/3]، فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين وأتمّه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بلزوم ما أتى به إلينا من ربنا وترك البدع والتفرق والاختلاف، وقال تعالى: {اتَّبعوا ما أُنزِلَ إليكم من ربِّكُم ولا تتبعوا من دونهِ أولياءَ قليلاً ما تذَكَّرون} [سورة الأعراف/3] وقال تعالى: {وأنَّ هذا صِراطي مُستقيمًا فاتَّبِعوهُ ولا تتَّبعوا السُّبُلَ فتَفرَّقَ بمن عن سبيلهِ ذلكم وصَّاكُم به لعلكُم تتَّقون} [سورة الأنعام/153].
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته ءاخذة ما أخذه الأمم قبلها شبرًا فشبرًا وذراعًا فذراعًا. وأخبر في الحديث أن أمته ستفترق ثلاثًا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: "من هي يا رسول الله؟" قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" [3].
وإذا عرفت هذا، فمعلوم ما عمّت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على العِدى، وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربات، والاستعانة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلى لله تعالى.
وصرْفُ شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه أغنى الأغنياء عن الشركاء، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، واخبر أن المشركين يدعون الملائكة والانبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار.
وقال تعالى: {ويعبدونَ مِن دونِ اللهِ ما لا يضُرُّهُم ولا ينفعهم ويقولونَ هؤلاءِ شُفعاؤنا عندَ اللهِ قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللهَ بما لا يعلمُ في السمواتِ ولا في الأرضِ سُبحانهُ وتعالى عمَّا يُشرِكون} [سورة يونس/18]، فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط لأجل الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ للهِ الشفاعةُ جميعًا} [سورة الزمر/44]، و: {من ذا الذي يشفعُ عندهُ إلا بإذنِهِ} [سورة البقرة/255]، وقال تعالى: {يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعةُ إلا مَنْ أذِنَ لهُ الرحمنُ ورضيَ لهُ قولاً} [سورة طه/109]. وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: {ولا يشفعونَ إلا لِمَنِ ارتضى} [سورة الأنبياء/28]. فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله كما قال تعالى: {وأنَّ المساجدَ للهِ فلا تدعوا معَ اللهِ أحدًا} [سورة الجن/18]، وقال تعالى: {ولا تدعُ من دونِ اللهِ ما لا ينفعُكَ ولا يَضُرُّكَ فإن فعلتَ فإنَّكَ إذًا مِنَ الظالمين} [سورة يونس/106]. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود، وءادم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله، ولا يشفع ابتداء بل يأتي فيخرُّ لله ساجدًا فيحمده بمحامد يعلّمه إياها ثم يقول له: "ارفع رأسك وسلْ تُعْطَ واشفع تشفَّع" [4]، ثم يَحِدُّ له حدًا فيُدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟ وهذا الذي ذكرنا لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على مناهجهم. وما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم ببناء القِباب عليها وإسراجها والصلاة عندها وجعل الصدقة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحذَّر منها كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين وحتى تعبد أقوام من أمتي الأوثان" [5].
وهو صلى الله عليه وسلم حمى جانب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق موصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر ويبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم [6] من حديث جابر، وثبت فيه لفظ أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع قبرًا مشرفًا إلا سوّاه [7]. ولذلك قال غير واحد من العلماء: "يجب هدم القباب المبنية على القبور" لأنها أسّست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى ءال الأمر إلى أن كفَّرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة، ممتثلين لقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الذينُ كلُّهُ للهِ} [سورة الأنفال/39]. فمن لم يُجب الدعوة بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسنان كما قال الله تعالى: {لقدْ أرسلنا رُسُلنا بالبيِّناتِ وأنزلنا معهُمُ الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقِسْطِ وأنزلنا الحديدَ فيهِ بأسٌ شديدٌ} [سورة الحديد/25].
وندعو إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولله عاقبة الأمور.
فهذا ما نعتقده وندين الله به، فمن عمل على ذلك فهو أخونا المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا.
ونعتقد أيضًا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضره من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك" انتهى.
ولا يخفى أن هذا الرجل [8]، بنى شُبهته على أن التوسل إلى الله ببركة الأنبياء فمَنْ دونهم عبادة والعبادة لا تكون إلا لله، ومن فعل ذلك فقد أشرك بالله وما درى أن العبادة الشرعية هي التكاليف التي اشتملت عليها الشريعة سواء كانت معقولة المعنى أو تعبُّديَّة، وأن ما خرج عن التكاليف الشرعية ليس من العبادة في شيء. ولم يفرّق بين البدعة الموصلة إلى الكفر المقتضي للقتال واستباحة الدماء والأموال وبين غيرها وإنما قصد ملكًا يريد الحصول عليه بعصبية دينية.
ولما شاعت هذه الرسالة في القطر التونسي بعث بها الباي أبو محمد حمود باشا إلى علماء عصره، وطلب منهم أن يوضحوا للناس الحق، فكتب عليها العلامة المحقق نسيج وحدِهِ أبو الفداء إسماعيل التميمي كتابًا مطولاً بديعًا يدل على يد طُولى وسعة اطلاع، سماه "المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية" [9]، واجاب عنها العلامة المحقق فخر عصره أبو حفص ابن المفتي العلامة فخر المذهب المالكي أبو الفضل قاسم المحجوب برسالة بديعة مشتملة على الرد عليه في قصده الذي صرح به والذي أشار إليه، وهي المطابقة لمقتضى الحال، نذكرها عوض ما أضربنا عنه من المقامات وإشعار التكسب التي لا تفيد إلا التقرب للممدوح، ونصها:
"{ربنا افتَحْ بيننا وبينَ قومِنا بالحَقِّ وأنتَ خيرُ الفاتحين} [سورة الأعراف/89]، {ربنا لا تجعلنا فتنةً للقومِ الظالمين* ونجِّنا برحمتِكَ من القومِ الكافرين} [سورة يونس/85-86]، {يا أيُّها الذينَ ءامنوا عليكُم أنفُسَكُم لا يضُرُّكُم من ضَلَّ إذا اهتَدَيتُم إلى الله مرجِعُكُم جميعًا فيُنَبِّئُكم بما كنتم تعملون} [سورة المائدة/105]، {يا أيُّها الذينَ ءامنوا لا تُحِلُّوا شعائرَ اللهِ ولا الشهرَ الحرامَ ولا الهَدْيَ ولا القلائِدَ ولا ءامِّينَ البيتَ الحرامَ يبتغونَ فضلاً مِن ربِّهم ورِضوانًا وإذا حَلَلْتُم فاصطادوا ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قومٍ أن صَدُّوكُمْ عنِ المسجدِ الحرامِ أن تعتدوا وتعاونوا على البِرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعُدوان} [سورة المائدة/2].
أما بعد هذه الفاتحة التي طلعت في سماء المفاتحة، فإنك راسلتنا تزعمُ أنك القائم بنصرة الدين، وأنك تدعو على بصيرة لما دعا إليه سيد الأولين والآخرين، وتحثُّ على الاقتفاء والاتباع، وتنهى عن الفرقة والابتداع، وأشرت في كتابك إلى النهي عن الفرقة واختلاف العباد، فاصبحت كما قال الله تعالى: {ومِنَ الناسِ مَن يُعجبُكَ قولُهُ في الحياةِ الدنيا ويُشهِدَ اللهَ على ما في قلبهِ وهوَ ألدُّ الخِصام* وإذا تولَّى سعى في الارضِ ليُفسِدَ فيها ويُهلِكَ الحرْثَ والنسلَ واللهُ لا يحبُّ الفساد} [سورة البقرة/204-205].
وقد زعمت أن الناس قد ابتدعوا في الإسلام أمورًا، وأشركوا بالله من الأموات جمهورًا في توسلهم بمشاهد الأولياء عند الأزمات، وتشفعهم بهم في قضاء الحاجات، ونذر النذور إليهم والقربات، وغير ذلك من أنواع العبادات، وأن ذلك كله إشراك برب الأرضين والسموات، وكفر قد استحللتم به القتال وانتهاك الحرمات، ولعمر الله إنك قد ضللت وأضللت، وركبت مراكب الطغيان بما استحللت، وشنّعت وهوّلت، وعلى تكفير السلف والخلف عوَّلت، وها نحن نحاكمك إلى كتاب الله المحكم، وإلى السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما ما أقدمت عليه من قتال أهل الإسلام، وإخافة أهل البلد الحرام، والتسلط على المعتصمين بكلمتي الشهادة، وأدمتم إضرام الحرب بين المسلمين وإيقاده، فقد اشتريتم في ذلك حُطام الدنيا بالآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرقتم كلمة المسلمين، وخلعتم من أعناقكم ربقة الطاعة والدين، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيَّنوا ولا تقُولوا لمن ألقى إليكم السلامَ لستَ مؤمنًا تَبْتَغونَ عَرَضَ الحياةِ الدُّنيا فعِندَ اللهِ مغانِمُ كثيرةٌ} [سورة النساء/94]، وقال عليه الصلاة والسلام: "أُمرتُ أنا أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" –أي ومحمد رسول الله- "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله" [10].
وحيث كنت لكتاب الله معتمدًا [11]، ولعماد سنته مستندًا [12]، فكيف بعد هذا –ويحك- تستحلُّ دماء أقوام بهذه الكلمة ناطقون، وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم مصدقون، ولدعائم الإسلام يُقيمون، ولحوزة الإسلام يحمون، وبعبدة الأصنام يقاتلون، وعلى التوحيد يناضلون، وكيف قذفتم أنفسكم في مهواة الإلحاد، ووقعتم في شق العصا والسعي في الأرض بالفساد؟.
وأما ما تأوَّلته من تكفيرهم بزيارة الأولياء والصالحين، وجعلهم وسائط بينهم وبين رب العالمين، وزعمت أن ذلك شنشنةُ الجاهلية الماضين، فنقول لكم في جوابه: معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد، وأن يأتي إليها معظمًا تعظيم العابد، وأن يخضع لها خضوع الجاهلية للأصنام، وأن يعبدها بسجود أو ركوع أو صيام، ولو وقع ذلك من جاهل لانتهض إليه ولاة الامر والعظماء، وأنكره العارفون والعلماء، وأوضحوا للجاهل المنهج القويم، وهدوء الصراط المستقيم.
وأما ما جنحت إليه وعوَّلت في التفكير عليه، من التوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على العدى، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرضين والسموات، إلى ءاخر ما ذكرتم، موقدًا به نيران الفرقة والشتات، فقد أخطأت فيه خطأ مبينًا، وابتغيت فيه غير الإسلام دينًا، فإن التوسل بالمخلوق مشروع، ووارد في السنة القويمة ليس بمحظور ولا ممنوع، ومشارعُ الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة، تضيق المهارق عن استقصائها، ويكلُّ اليراع إذا كُلف بإحصائها، ويكفي منها توسل الصحابة والتابعين، في خلافة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، واستقساؤهم عام الرمادة بالعباس، واستدفاعُهم به الجدب والبأس، وذلك أن الارض أجدبت في زمن عمر رضي الله عنه، وكانت الريح تذرو ترابًا كالرماد لشدة الجدب، فسميت عام الرمادة لذلك، فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس بن عبد المطلب يستسقي للناس، فأخذ بضبْعَيْهِ وأشخصه قائمًا بين يديه وقال: اللهم إنّا نتقرب إليك بعم نبيك، فإنك تقول وقولك الحق: {وأمَّا الجِدارُ فكانَ لغُلامَينِ يتيمَيْنِ في المدينةِ وكانَ تحتهُ كنزٌ لهُما وكانَ أبوهُما صالحًا} [سورة الكهف/82]، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دنونا به إليك مستغفرين ثم أقبل على الناس وقال: استغفروا ربكم إنه كان غفارًا، والعباس عيناه تنضحان يقول: اللهم أنت الراعي لا تُهمِلِ الضالةَ ولا تدعِ الكسير بدار مَضْيَعة، فقد ضرع الصغير ورقّ الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغثهم بغياثكَ قبل أن يقنطوا فيهلكوا، إنه لا يبأس من رَوْحك إلا القوم الكافرون، اللهم فأغثهم بغياثك فقد تقرَّب القومُ إليك بمكانتي من نبيك عليه السلام، فنشأت سحابة ثم تراكمت، وماسَتْ فيها ريح ثم هزّت، ودرَّت بغيثٍ واكفٍ، وعاد الناس يتمسحون بردائه ويقولون له: هنيئًا لك ساقيَ الحرمين [13].
فأخبرني –يا أخ العرب- هل تكفّر بهذا التوسل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وتكفر معه سائر من حضر من الصحابة والتابعين، لكونهم جعلوا بينهم وبين الله واسطة من الناس، وتشفّعوا إليه بالعباس، وهل أشركوا بهذا الصنيع مع الله غيره، وما منهم إلا من أنهضته للدين القويم غيرة. كلا والله، وأقسم بالله وتالله، بل مكفّرهم هو الكافر، والحائد عن سبيلهم هو المنافق الفاجر، وهم أهدى سبيلاً، وأقوم قيلاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا بمن بعدي: أبي بكر وعمر" [14].
وإذا قدحت في هذا الجمع من الصحابة الذين منهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهما فمن أين وصل لك هذا الدين، و[من] رواه لك مبلغًا عن سيد المرسلين؟ ثم ما تصنع يا هذا في الحديث الآخر الذي رواه مسلم [15] في صحيحه مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم في أويس، وأنه أخبر به عليه الصلاة والسلام وهو من أعلام النبوءة، وأمر عمر بطلب الاستغفار منه، وأنه طلب منه ذلك واستغفر له، وقد قال الله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنَّا كُنَّا خاطِئين} [سورة يوسف/97].
فالزائر للأولياء والصالحين إما أن يدعو الله لحاجته، ويتوسل بسرّ ذلك الولي في إنجاح بُغيته، كفعل عمر في الاستسقاء، أو يستمدَّ من المزور الشفاعة له وإمداده بالدعاء كما في حديث أويس القرني، إذ الأولياء والعلماء كالشهداء أحياء في قبورهم [16]، إنما انتقلوا من دار الفناء إلى دار البقاء.
فأيُّ حرج بعد هذا يا أيها القائم للدين، في زيارة الأولياء والصالحين؟ وأي منكر تقوم بتغييره، وتقتحم شقّ العصا وإضرام سعيره؟ ولعلك من المبتدعة الذين ينكرون أنواعًا كثيرة من الشفاعة، ولا يثبتونها إلا لأهل الطاعة، كما أنه يلوح من كتابك إنكار كرامات الأولياء، وعدم نفع الدعاء، وكلها عقائد عن السنة زائغة، وعن الطريق المستقيم رائغة.
وقولكم إن ما قلتموه لا يخالف فيه أحد من المسلمين، افتراء ومَيْن، وإلحاد في الدين، لأن أهل السنة والجماعة يثبتون لغير الأنبياء الشفاعة، كالعلماء والصلحاء وءاحاد المؤمنين، فمنهم من يشفع للقبيلة ومنه من يشفع للفئام من الناس كما ورد أيضًا أن أويسًا القرني يشفع في مثل ربيعة ومضر [17].
--------------------------------------------------------------------------------
وأما المعتزلة فإنهم منعوا شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأثبتوا الشفاعة العظمى من هول الموقف، والشفاعة للمؤمنين المطيعين أو التائبين في رفع الدرجات، ولم يثبتوا الشفاعة لأهل الكبائر الذين لن يتوبوا في النجاة من النار بناء على مذهبهم الفاسد من التكفير بالذنوب، وأنه يجب عليها التعذيب.
وأما ما جنحت إليه من هدم ما بُنيَ على مشاهد الأولياء من القباب، من غير تفرقة بين العامر والخراب، فهي الداهية الدهياء والعظيمة العظمى من الظلم التي أظلك الله فيها على علم: {ومَنْ أظلمُ مِمَّن منَعَ مساجِدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُهُ وسعى في خرابِها أولئِكَ ما كانَ لهم أن يدخُلوها إلا خائِفينَ لهُمْ في الدنيا خِزْيٌ ولهُم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ} [سورة البقرة/114]. وكأنك سمعت في بعض المحاضر بعض الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على المقابر، فتلقَّفْته مجملاً من غير بيان، وأخذته جُزافًا من غير مكيال ولا ميزان، وجعلت ذلك وليجةً إلى ما تقلدته من العسف والطغيان، في هدم ما على قبور الأولياء والعلماء من البنيان. ولو فاوضت الأئمة، واستهديت هداة الأمة، الذين خاضوا من الشريعة لُججها، واقتحموا ثَبَجها، وعالجوا غِمارها، وركبوا تيارها، لأخبروك أن محلّ ذلك الزجر، ومطلع ذلك الفجر، في البناء في مقابر المسلمين المعدّة لدفن عامّتهم لا على التعيين، لِما فيه من التحجير على بقية المستحقين، ونبش عظام المسلمين.
وأما ما يبنيه المسلمون في أملاكهم المملوكة لهم، ليصلوا بمن يُدفن هناك حبلهم، فلا حرج يلحقهم، ولا حرمة ترهقهم. فكما لا تحجير عليهم في بناء أملاكهم دُورًا أو حوانيت أو مساجد، كذلك لا حرج عليهم في جعلها قبابًا أو مقامات أو مشاهد.
ثم ليتك إذ تلقفت ذلك منهم، ووعيته عنهم، أن تعيد عليهم السؤال، وتشرح لهم نازلة الحال، وهل يجوز بعد النزول والوقوع، هدم ما بُني على الوجه الممنوع، وهل هذا التخريب محظور أو مشروع. فإذا أجابوك أنه من معارك الانظار، ومحل اختلاف العلماء والنُّظار، وأن منهم من يقول بإبقائه على حاله، رعيا للحائز في إتلاف ماله، وأن له شبهة في الجملة تحميه، وفي ذلك البناء منفعة للزائر تقيه. ومنهم من شدد النكير، وأبى إلا الهدم والتغيير.
فإذا تحقق عندك هذا، فكيف تقدم هذا الإقدام وتخوض مزالق الأقدام، وتطلق العنان في هدم كل مقام، من غير مراعاة في الدين ولا ذمام. فإذا انفتحت لك هذه الأبواب، نظرت بنظر ءاخر ليس فيه ارتياب، وهو أن المنكر الذي اقتضى نظرُك تغييره، ليس متفقًا عليه عند أهل البصيرة، وأنه من مدارك الاجتهاد، وقد سقط عنك القيام فيه والانتقاد.
ثم بعد الوصول إلى هذا المقام، أعد نظرًا في إيقاد نار الحرب بين أهل الإسلام، واستباحة المسجد الحرام، وإخافة أهل الحرمين الشريفين، والاستهوان لإصابة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فسيتضح لك أنك غيَّرت المنكر في زعمك، ويحسب اعتقادك وفهمك، وأتيت بجمل كثيرة من المناكر، وطائفة عديدة من الكبائر، ءاذيت بها نفسك والمسلمين، وابتغيت بها غير سبيل المؤمنين، وتعرضت بها لإذاية الأولياء والصالحين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث رواه البخاري [18] والإمام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل قال من عادى لي وليًّا فقد ءاذنني بحرب"، فكفى بالتعرض لحرب الله خطرًا، وقذفًا في العطب وضررًا.
وأما إنكار زيارة القبور، فأي حرج فيها أو محظور، وأي ذميمة تطرقها أو تعروها، مع ثبوت حديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" [19]، فإن هذا الحديث ناسخ لما ورد من النهي عن زيارتها، وماحٍ لما في أول الإسلام من حماية الأمة من أسباب ضلالتها، لقرب عهدها بجاهليتها، وعبادة أصنامها وءالهتها. وكيف تمنع من زيارتها والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرعها، وسامَ رياضها وأربعها، فقد ثبت في حديث عائشة أم المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم زار بقيع الغرقد واستغفر فيه لموتى المسلمين [20]، وثبت أيضًا أنه زار قبر أمه ءامنة بنت وهب [21] واستغفر بها [22].
وأخذ بذلك الصحابة والتابعون، ودرج عليه العلماء والسلف الماضون، فقد ثبت في الاحاديث المروية عن أئمة الهدى ونجوم الاقتداء، أن فاطمة سيدة نساء العالمين زارت عمها سيد الشهداء، وذهبت من المدينة إلى جبل أحد، ولم ينكر من الصحابة أحد، وهم إذ ذاك بالمدينة متآمرون، وعلى إقامة الدين متناصرون. أفنجعل هؤلاء أيضًا مبتدعين، وأنهم سكتوا عن الابتداع في الدين؟ كلا والله، بل يجب علينا اتباعهم، ومن أدلة الشريعة إجماعهم.
وقد مضت على ذلك العلماء في جميع الاقطار، وانتدبوا بأنفسهم للاستمداد من قبور الصلحاء وقضاء الأوطار، و[دونوا] [23] ذلك في كتبهم ومؤلفاتهم، وسطروه في دواوينهم وتعليقاتهم، وقسموا الزيارة إلى أقسام، وأوضحوا ما تلخص لديهم بالأدلة الشرعية من الأحكام.
وذلك أن الزيارة إن كانت للاتعاظ والاعتبار، فلا فرق في جوازها بين قبور المسلمين والكفار، وإن كانت للترحم والاستغفار من الزائر، فلا منع فيها إلا في حق الكافر، فإن الشريعة أخبرت بعدم غفران كفره وعليه حملوا قوله تعالى: {ولا تُصَلِّ على أحدٍ منهُم ماتَ أبدًا ولا تَقُمْ على قبرهِ} [سورة التوبة/84]. وإن كانت الزيارة لاستمداد الزائر من المزور، وتوخي المكان الذي فضله مشهور، والدعاء عند قبره لامر من الأمور، فلا حرج فيها ولا محظور، بل هو مندوب إليه، ومرغّب فيه، وإنه مما تشد المطي إليه، ومن خالف في هذا الحكم سبيل جمهورهم، واتبع من الشبهات مخالف منشورهم، فقد شدد العلماء في النكير عليه، وسددوا سهام النقد إليه، وأشرعوا نحوه رماح التضليل، وأرهفوا له سيوف التجهيل، واتفقت كلمتهم على بدعته في الاعتقاد، وثنوا إليه عنان الانتقاد، ومن يُضلل الله فما له من هاد.
وأما النهي [24] الوارد في شد المطي لغير المساجد الثلاثة فإنما هو بالنسبة لنذر الصلاة فيها، فإنه لا يختلف ثواب الصلاة لديها [25].
وأما المزارات فتختلف في التصريف مقاماتها، وتتفاوت في ذلك كراماتها، وذلك لسرّ في الاستمداد والأمداد لا تطلع عليه، وضُرب بسور له باب بينك وبين الوصول إليه، وقد اوضح ذلك حجة الإسلام، ومن شهد له بالصديقية العلماء والاولياء العظام.
وأما ادماجكم لقبور الأنبياء في أثناء النكير، والتضليل لزائرها والتكفير، فهو الذي أحفظ عليكم الصدور، وأترع حياض الكراهة والنفور، وسدد إليكم سهام الاعتراض، وأوقد شُواظ بغض والارتماض.
فقل لي –يا أخا العرب- هل قمت لنصرة الدين أن لنقض عراه، وهل أنت مصدق بالوحي لنبيه أن قائل: إن هو إلا إفك افتراه؟ وما تصنع بعد اللتيَّا والتي، في حديث "من زار قبري وجبت له شفاعتي" [26]؟ وأخبرني هل تضلل سليمان بن داود في بنائه على قبر الخليل ومن معه من أنبياء بني إسرائي؟ وما تقول –ويحك- في الحديث الذي رواه جهابذة الرواة، وصححه المحدثون الثقات، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لما أسري بي إلى بيت المقدس، مرّ بي جبريل على قبر إبراهيم عليهما السلام، فقال لي انزل فصلّ هنا ركعتين، فإن ههنا قبر أبيك إبراهيم عليه السلام" [27]. وعنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أنه قال: "من لم تُمكنْه زيارتي فليزُر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام" [28]. فأين تذهب بعد هذا يا هذا؟ وهل تجد لنفسك مدخلاً أو معاذًا؟ وهل أبقيت بعد تضليل جميع الأنبياء ملاذًا؟ {ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذْ هَدَيْتنا وهبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنكَ أنتَ الوهاب} [سورة ءال عمران/8].
وأما تلميحكم للأحاديث التي تتلقفونها، ولا تحسنونها ولا تعرفونها، فهِمْتُم بسبب ذلك في أودية الضلالة، ولم تشيموا بها إلا بُرُوق الجهالة، وسلكتم شِعابها من غير خبير، ونحوتم أبوابها بلا تدبرر ولا تدبير، فإن حديث: "لا تتخذوا قبري مسجدًا" [29]، محمله عند البخاري على جعله للصلاة متعبدًا، حفظًا للتوحيد، وحماية للجاهل من العبيد، لأن المصلي للقبلة يصير كأنه مصلٍّ إليه [30]، فحمى صلى الله عليه وسلم حمى ذلك من الوقوع فيه. وأما قصده للزيارة والاستشفاع والاستمداد ببركته والانتفاع، وقصد المسلمين إياه من سائر البقاع، فما يسعنا إلا الاتباع.
وكذلك ما لوَّحْتَ به إلى شدّ الرحال، فإنك أخطأت في الاستشهاد به في نازلة الحال، وذلك أن الحصر في المساجد، دون سائر المشاهد.
وكذلك ما لمحت إليه من حديث تعظيم القبر بإسراجه، فإنك أخطأت فيه واضح منهاجه، مع بهرجة نقده في رواجه، ومحمله –على فرض صحته- على فعل ذلك للتعظيم المجرد عن الانتفاع للزائرين، أما إذا كان القصد به انتفاع اللائذين والمقيمين، فهو جائز بلا مَيْن.
وأما ما تدَّعونه من ذبح الذبائح والنذور، وتبالغون في شأنها التغيير والتنكير، وتصف ألسنتكم الكذب، وتثيرون في شأنها الهرج والشغب، فكون الذبائح المذكورة مما أهِلَّ به لغير الله مكابرةٌ لليعان، وقذفٌ بالإفك والبهتان، فإنا بلونا أحوال أولئك الناذرين، فلم نر أحدًا منهم يسمي عند ذبحها اسم ولي من الصالحين، ولا يلطخ الضرائح، بدم تلك الذبائح، ولا يأتون بفعل من الأفعال، الحاكمة على تحريم الذبيحة والإهلال.
وأما نذرها لتلكم المزارات، فليس على أنها من باب الديانات، ولا أن من لم يفعل ذلك يكون ناقص الدين في العادات، وإنما يقصدون بذلك مقاصد الرُّقى والنشر [31]، والانتفاع في الدنيا بسر في التصدق بها استتر، ولم يدر منها إلا ما اشتهر.
والواجب علينا وعليكم الرجوع في حكم نذرها إلى العلماء الأعلام، المتضلعين من دراية الاحكام، المقيمين لقسطاسها، المسرجين لنبراسها، الناقبين على أساسها، ومن لديهم محك عسجدها ونحاسها.
فإن كنتم تقيمون، ومن مخالفة الشريعة تتجرمون {فسْئَلوا أهلَ الذِّكرِ إن كنتم لا تعلمون} [سورة النحل/43]، {ولا تَقْعُدوا بكُلِّ صِراطٍ تُعدون} [سورة الأعراف/86]، فإنهم يهدونكم السبيل، ويفتونكم في هذه المسألة بالتفصيل، وأن هذا الناذر إن نذر تلك الذبائح للولي المعيّن بلفظ الهدي والبدنة، فقد جاء بالسيئة مكان الحسنة، ولكن ما رأينا من خلعَ في هذا المحظور رسَنَه، ولا من اهتصَرَ فَتَنه، وإن نذر تلك الذبائح لمحل الزيارة، بغير هاته العبارة، وكان من الذبائح التي تقبل أن تكون هديًا، فهل يلزمه أن يسعى به لذلك المزار سعيًا، أو لا يلزمه إلا التصدق به في موضعه رعيًا، خلاف في مذهب مالك شهير، قرره النحارير.
وإن كان ذلك النذر مما لا يصح إهداؤه، فالقاصد للفقراء الملازمين بمحل الشيخ يلزمه بعثه وإنهاؤه، والقاصد للولي في نذره وتشرعه، لا يلزمه إلا التصدق به في موضعه.
وإذا اتضح لديك الحال، فأي داعية للحرب والقتال؟ وهل يتميز المشروع من هذه الصور بالمحظور، إلا بالنيات التي لا يعلمها إلا العالم بما في الصدور؟ والله إنما كلفنا بالظاهر، ووكل إليه أمر السرائر. ولم يقيّض بالخواطر نقيبًا، ولا جعل عليها مهيمنًا من الولاة ولا رقيبًا.
وإذا التزمت سدَّ الذريعة بالمنع من المشروع، خوفًا من الوقوع في الممنوع، فالتزم هذا الالتزام، في سائر العبادات الواقعة في الإسلام، التي لا تفرقة فيها بين المسلم والكافر، إلا بما انطوت عليه الضمائر. فإن المصلي في المسجد يحتمل أن يقصد عبادة الحجارة، بمثل ما احتمل صاحب الذبائح والزيارة، والصائم يحتمل أن يقصد بصومه تصحيح المزاج، أو المداواة والعلاج، والمزكي يحتمل أن يقصد مقصدًا دنيويًا، أو معبودًا جاهليًا، والمُحرِم بحج أو عمرة، يحتمل أن ينوي ما يوجب كفره.
وإذا وصلت إلى هذا الالتزام، نقضت سائر دعائم الإسلام، والتبس أهل الكفر بأهل الإيمان، وأفضى الحال إلى هدم جميع الأركان، واستبيحت دماء جميع المسلمين، وهدمت صلواتهم ومساجدهم وصوامعهم أجمعين.
فانظر أيها الإنسان، ما هذا الهذيان، وكيف لعب بك الشيطان، وماذا أوقعك فيه من الخسران. فارجع عن هذا الضلال المبين، وقل ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.
وأما ما جلبتم من الاحاديث الواردة في تغيير النبي صلى الله عليه وسلم للقبور، وأنه أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بطمسها وتسويتها، فقد أخطأتم الطريق في فهمها، ولم يأتِكم نبأ علمها، ولو سألتم عن ذلك ذويه، لأخبروكم بأن محمله طمس ما كانت الجاهلية عليه، وكانت عادتهم إذا مات عظيم من عظمائهم، بنوا على قبره بناء كأُطُمٍ من ءاطامهم، مباهاة وفخرًا، وتعاظمًا وكبرًا، فبعث صلى الله عليه وسلم من يمحو من الجاهلية ءاثارها، ويطمس مباهاتها وفخارها، وإلا فلو كان كما ذكرتم، لكان حكم التسنيم [32] كحكم ما أنكرتم.
وإذا استبان لكم واتضح لديكم، انقلبت الحجة التي أتيتم بها عليكم، وكيف تجعلون تلك الأحاديث حجة قاضية على وجوب كون القبور ضاحية [33]، والفرق ظاهر بين البناء على القبور، وحفر القبور تحت البناء، فالأول من فعل الجاهلية الوارد فيه ما ورد، والثاني هو الذي يعوزكم فيه المستند، ولا يوافقكم على تعميم النهي أحد.
وأما ما نزعتم إليه من التهديد، وقرعتم فيه بآيات الحديد، وذكرتم "أن من لم يُجِب بالحجة والبيان، دعوناه بالسيف والسنان"، فاعلم يا هذا أننا لسنا ممن يعبد الله على حرف، ولا ممن يفرُّ عن نصرة دينه من الزحف، ولا ممن يظن بربه الظنون، أو يتزحزح عن الوثوق بقوله تعالى: {فإذا جاءَ أجلُهُم لا يَسْتأخِرونَ ساعةً ولا يستقدِمون} [سورة الأعراف/34]، ولا ممن يميل عن الاعتصام بالله سرًا وعلنًا، أو يشك في قوله تعالى: {قُل لن يُصيبَنا إلا ما كتبَ اللهُ لنا} [سورة التوبة/51]، وما بنا من وهن ولا فشل، ولا ضعف في النكاية ولا كسل، ننتصر للدين ونحمي حماه، وما النصر إلا من عند الله.
وأما ما جال في نفوسكم، ودار في رؤوسكم، وامتدت إليه يد الطمع، وسوَّلته الأماني والخدع، من أنكم من الفئة الذين هم ومن حالفهم لا يضرهم من خالفهم، وأنكم من الطائفة الظاهرين على الحق، وأن هذه المناقب تساق إليكم وتَحقُّ، فكلا وحاشا أن يكون لكم في هذه المناقب من نصيب، أو يصير لكم إرثها بفرض أو تعصيب، فإن هذا الحديث وإن كان واردًا صحيحًا [34]، إلا أنكم لم تُوفُّوا طريقه تنقيحًا، فإن في بعض رواياته "وهم بالمغرب" [35] وهي تحجبكم عن هذه المناقب، وتبعدكم عنها بعد المشارق من المغارب.
فانفض يديك مما ليس إليك، ولا تمدَّنَّ عينيك إلى من حرِّمت عليك، فإنكاح الثريا من سهيل، أمكن من هذا المستحيل.
أما أهل هذه الأصقاع والذين بأيديهم مقاليد هذه البقاع، فهم أجدر أن يكونوا من إخواننا، وتمتدُّ أيديهم إلى خِوانها، لصحة عقائدهم السنية، واتباعهم سبيل الشريعة المحمدية، ونبذهم للابتداع في الدين، وانقيادهم للإجماع وسبيل المؤمنين.
وقد أنبأتنا في هذا الكتاب، وأعربت في طيّ الخطاب، عن عقائد المبتدعة، الزائغين عن السنة المتبعة، الراكبين مراكب الاعتساف، الراغبين عن جمع الكلمة والائتلاف، فالنصيحة النصيحة، أن تنزع لباس العقائد الفاسدة وتتسربل العقائد الصحيحة، وترجع إلى الله وتؤمن بلقاه، ولا تكفّر أحدًا بذنب اجتناه، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله.
وزبدة الجواب وفذلكة الحساب، أنك إن قفوت يا أخا العرب نصحك، وأسَوْت بالتوبة جرحك، وأدملت بالإنابة قرحك، فمرحبًا بأخي الصَّلاح، وحيَّهلا بالمؤازر على الطاعة والنجاح، وجمع الكلمة والسماح، وإن أطلت في لُجّة الغواية سبْحَكَ وشيدت في الفتنة صرحك، واختلتَ عارضًا رُمحك، فإن بني عمك فيهم رماح، وما منهم إلا من يتقلد الصفاح، ويجيل في الحرب فائز القِداح.
والله تعالى يسدد سهام الأمة الساعية فيما يحبه ويرضاه، ويُخمد ضرام الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله والسلام" انتهى
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
[1] هو الوزير العالم المؤرخ الاديب أحمد ابن الحاج محمد بن عمر بن أبي الضياف التونسي، ولد بمدينة تونس سنة 1802ر وتلقى علومه الشرعية فيها، ثم تولى عددًا من المناصب في الدولة، وفي سنة 1277هـ-1860ر انتخب عضوًا في المجلس الكبير، وفي سنة 1287هـ-1870ر عين مستشارًا بالقسم الثالث من الوزارة الكبرى، وكان من أبرز الأدباء في عصره، توفي بمدينة تونس سنة 1291هـ-1874ر، ودفن حذ قبر والده بجامع الوزير يوسف صابع الطابع، له عدة تآليف منها: إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، وفي أربع مجلدات، طبع بعناية وزارة الشؤون الثقافية في تونس سنة 1963ر، وله رسالة في المرأة.
[2] مراده أنه من أتباع ابن تيمية.
[3] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الإيمان: باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: "هذا حديث مفسر غريب" عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي [2641]. والحاكم في المستدرك [1/129] من طريق عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وقال [1/128]: "لا تقوم به الحجة" اهـ. والطبراني في "المعجم الكبير" [8/152]، قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" [15/156]: "رواه الطبراني في الكبير" وفيه كثير بن مروان وهو ضعيف جدًا" اهـ. وللحديث طرق وألفاظ أخرى.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {لِما خَلقتُ بيديَّ} [سور ص/75] [7410]، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها [194].
[5] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" اهـ [2219]، وأحمد في مسنده [5/278 و284].
[6] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنائز: باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه [970].
[7] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنائز: باب الأمر بتسوية القبر [969].
[8] يعني محمد بن عبد الوهاب النجدي.
[9] هو القاضي بتونس إسماعيل التميمي التونسي المتوفى سنة 1248هـ، والكتاب مطبوع بتونس.
[10] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاةَ وءاتوا الزكاةَ فخَلُّوا سبيلهم} [سورة التوبة/5] [25]، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله [20].
[11] و[12] أي على زعمك في ذلك، وإلا فمحمد بن عبد الوهاب النجدي بعيد كل البعد عن الكتاب والسنة المطهرة.
[13] ذكر هذه القصة ابن الأثير في تاريخه "الكامل" [2/557].
[14] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب المناقب: باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن" اهـ [3662]، وابن ماجه في سننه: المقدمة: باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [97].
[15] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنه [2543].
[16] شهداء المعركة من المسلمين أحياء عند ربهم لا تأكل الأرض أجسادهم وهذا ثابت نصًا ومشاهدة، وأيضًا ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" صححه البيهقي في جزء حياة الأنبياء بعد وفاتهم [رقم/15]، وأورده الحافظ ابن حجر على أنه ثابت في "فتح الباري" [6/487] وذلك لما التزمه أن ما يذكره من الأحاديث شرحًا أو تتمة لحديث في متن البخاري فهو صحيح أو حسن، ذكر ذلك في مقدمة "الفتح" [ص/4]، فهذا ثابت لكل نبي، وأما غيرهم من الصالحين قد يحصل لبعضهم لكنه ليس عامًا كما حصل للتابعي الجليل ثابت البناني فقد شوهد في قبره بعد موته وهو يصلي، روى ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي في "أهوال القبور".
[17] أخرجه ابن عساكر في تاريخه [9/454]، وورد عن الحسن مرسلاً بلفظ "يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر" انظر "إتحاف السادة المتقين" [8/124] للحافظ الزبيدي.
[18] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب التواضع [6502].
[19] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنائز: باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه [977].
[20] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنائز: باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لاهلها [974].
[21] الذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له واستأذن أن يزور قبرها فأذن له، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه: كتاب الجنائز: باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، وأبو داود في سننه: كتاب الجنائز: باب في زيارة القبور، وابن ماجه في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، وأحمد في سمنده [2/441].
[22] هذا غير ثابت فالثابت أنه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له.
[23] جاء في الأصل عبارة: "وخلدوا" وهي لا تستعمل في هذا المعنى، وقد استبدلناها بمعنى صحيح وأشرنا في الحاشية إلى ذلك.
[24] انظر الحديث في صحيح البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة: باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة [1189]، وصحيح مسلم: كتاب الحج: باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد [1397].
[25] وأما الحديث فمعناه الذي فهمه السلف والخلف أنه لا فضيلة زائدة في السفر لأجل الصلاة في مسجد إلا السفر إلى هذه المساجد الثلاثة، لأن الصلاة تضاعف فيها إلى مائة ألف وذلك في المسجد الحرام وإلى ألف وذلك في مسجد الرسول وإلى خمسمائة وذلك في المسجد الأقصى. فالحديث المراد به السفر لأجل الصلاة، ويبين ذلك ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من طريق شهر بن حوشب من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" وهذا الحديث حسنه الحافظ ابن حجر، وهو مبيّن لمعنى الحديث السابق، وتفسير الحديث بالحديث خير من تحريف ابن تيمية، قال الحافظ العراقي في ألفيته في مصطلح الحديث: وخيرُ ما فسَّرتهُ بالوارد.
[26] أخرجه الدارقطني في سننه [2/278]، والبيهقي في "شعب الإيمان" [3/490]، وحسنه الحافظ الفقيه الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه "شفاء السقام" [ص/11-12-13].
[27] الذي وقفنا عليه أنه صلى في بيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام المسيح ابن مريم، رواه البيهقي في دلائل النبوة [2/356].
[28] لا أصل له، ما ثبت حديثًا ذكرُ موضع قبر نبي من الأنبياء إلا في موسى عليه السلام حيث قال: "عند الكثيب الاحمر".
[29] أخرجه مسلم بلفظ: "لا تتخذوا القبور مساجد": كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب النهي عن بناء المساجد على القبور [532].
[30] ومن بدع الوهابية تحريمهم الصلاة في مسجد فيه قبر واحتجوا بحديث البخاري: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفيه قول عائشة: "ولولا ذلك لأبرزوا قبره" تعني قبر رسول الله، فالجواب عن احتجاجهم بهذا الحديث: أن الحديث محمول على من يقصد الصلاة إلى القبر لتعظيمه وهذا يُتصور إن كان بارزًا غير مستور وإلا فلا حرمة، وذلك بأن لا يقصد المصلي الصلاة إليه لتعظيمه أو يكون مستورًا فإنه إن لم يكن بارزًا لا يقصد بالصلاة إليه، أما مجرد وجود قبر في مسجد لم يقصده المصلي بالصلاة إليه فلا ينطبق عليه الحديث المذكور ولذلك نصت الحنابلة على أن الصلاة في المقبرة مكروهة ولا تحرم، والوهابية يدعون أنهم حنابلة وما أكثر ما يخالفون الإمام أحمد في الأصول والفروع.
ويكفي في عدم حرمة الصلاة في مسجد فيه قبر قول عائشة: "ولولا ذلك لأبرزوا قبره". ولم يخالف في ذلك أحد من السلف والخلف، ولذلك يصلون في مسجد الرسول في الجهات الأربعة غربي القبر وأمامه وشرقيه وشماليه، فمن صلى شمالي القبر يكون متوجهًا إلى القبر لكن الحرمة والكراهية انتفت لكون القبر مستورًا، فالوهابية في تحريمهم المطلق خالفوا إجماع المسلمين فيكونون ضللوا الأمة، وقد قال الفقهاء كالقاضي عياض وغيره: "من قال قولاً يؤدي إلى تضليل الأمة فهو مجمع على كفره"، فليعرفوا ما يؤدي إليه كلامهم.
ومما يدل على عدم التحريم والكراهية إذا لم يكن بارزًا ما ورد بإسناد صحيح أن مسجد الخيف قُبر فيه سبعون نبيًا، حتى إن قبر ءادم على قول هناك قرب المسجد، وهو مسجد كان يصلى فيه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، وهذا الحديث أورده الحافظ ابن حجر في المطالب العالية، وقال الحافظ البوصيري: "رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح".
وأما حديث: "لا تصلوا إلى القبور" فليس فيه دلالة على التحريم بل هو محمول على اختلاف أحوال القبر على التفصيل السابق.
قال الشيخ البهوتي الحنبلي في شرح منتهى الإرادات ما نصه: "[وتكره] الصلاة [إليها] –أي القبور- لحديث أبي مرشد الغنوي مرفوعًا "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" رواه الشيخان... [بلا حائل] فإن كان حائل لم تكره الصلاة [ولو] كان [كمؤخرة رجل]" اهـ.
ومما يدل على ما قدّمنا ما رواه ابن حبان في صحيحه عن عبيد الله بن عبد الله قال: رأيت أسامة بن زيد يصلي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مروان بن الحكم فقال: تصلي إلى قبره، فقال: إني أحبه، فقال له قولاً قبيحًا ثم أدبر، فانصرف أسامة فقال: يا مروان إنك ءاذيتني وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يبغض الفاحش المتفحش"، وإنك فاحش متفحش.
[31] النشرة بضم النون: ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن أن به مسًا من الجن.
[32] تسني