التصوف سلوك وتربية وإحسان
في بلاد الحرمين
بقلم
السيد سمير احمد حسن برقة
اتفق تماما مع من يدعو إلى فتح الملفات التي علاها الغبار ومناقشة كل ألازمات والدراسات والأفكار والرؤى ومن ذلك ملف التصوف والصوفية وذلك لأنه الأسهل والأقرب . فنحن في أمس الحاجة إلى إعادة قراءته قراءة جديدة وصحيحة ومن منابعه الصافية وبدون أحكام مسبقة أو تهم ملفقة أو أدعاء باطل . فالباب يجب أن يفتح والفرصة تتاح لمن يريد أن يدلو بدلوه بموضوعية وعقلانية ومنطقية مقبولة تقرب ولا تباعد تجمع ولا تفرق تتآلف ولا تتنافر تعذر ولا تخطىْ تتنقد ولا تجرح تناقش ولا تجامل فىتسامح حب واعتدال مقبول وتبادل معرفي للعلوم الإنسانية والثقافة الروحية المتجردة والتي تعتمد بل ولا تخرج عن النصوص والمسار الطبيعي للإنسان . فالرؤى قد تتلاقى والأفكار تتلا قح والاحترام يتبادل والمحبة تتقابل في حوار وطني بدأت خيوطه تنسج في واقعنا المعاصر .
أننا ندعو وبصدق إلى إظهار الحقائق وان لا نساهم ــ كما حاول البعض فيما سبق ــ في محاولات الإسقاط والاستبعاد والاستقصاء ... وآن الأوان وحماية للأجيال القادمة أن نعيد القراءة قراءة جديدة وبنظرة تكاملية شاملة تتناول الجوانب الايجابية وتكرسها في المفهوم الوطني الشامل وتعالج الجوانب السلبية لتصحيح الصورة التي بدأت تهتز من حولنا .
والتصوف ليس باتحاد ولا حلول ولا شطحات ولا قفزات بل توحيد وإخلاص وحقائق ومعارف ومعالم ومكارم وفضائل على منهج النبوة والسلف الصالح من هذه الأمة المباركة وكل ما خالف ذلك فمتروك ومطروح وفى هذا يقول الإمام الجنيد : مذهبنا ــ اى التصوف ــ مقيد بأصول الكتاب والسنة . ويقول ابن خلدون في مقدمته عن التصوف : هذا علم من العلوم الشرعية وأصله أن طريقة هولاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريق الحق والهداية , وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الحياة وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة . وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف ولما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على الله باسم الصوفية .
ومهما قيل عن أصل كلمة تصوف أو صوفي فإنها تظل منبع صافى من منابع الإسلام وقواعده العامة متماشية مع تعاليم الدين المسايرة للشريعة والتي من قواعدها الأساسية : صفاء النفس ومحاسبتها ـ قصد وجه الله ـ التمسك بالفقر والافتقار إليه ـ توطين القلب على الرحمة والمحبة ـ التجمل بمكارم الأخلاق النبوية .
لذلك فالتصوف ليس سفسطة وإنما تعبير عن منطق حياة تختلجه عوالج النفس ونزعات الفطرة فهو علم السلوك ودرجة من الإحسان وتربية للقلوب وتزكية للنفوس وتهذيبها وتحليتها بالفضائل الشرعية وتخليتها عن الرذائل النفسية والخلقية ولا مشاحة في الألفاظ طالما المبنى صحيحا والطريق واضح والمنهج قويم .
والتصوف في حقيقته إيثار وتضحية وهو نزوع فطرى إلى الكمال الانسانى والتسامي والمعرفة في عبادة وإيمان ويقين وعرفان وماهو في حقيقته إلا حفظ للأوقات وتعميره بالطاعات ولولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين لان هدفهم الظفر بنفوسهم فإذا ظفروا بها وصلوا لان فكرة ساعة خير من عبادة كذا وكذا ...
فالتصوف الحقيقي يحتل المكان الأسمى والأعلى في المعرفة الإسلامية فهو خلاصة الحكمة والنور وهو جمّاع الدراسات النفسية والقلبية والروحية وهو المشارك الأكبر للفقه في معالجة وتنقية الجوارح من خلال المعاني القرآنية والأحاديث النبوية .
فهو ثمرة كبرى من المعارف والعلوم وثروة ضخمة بما أثاره خصومه من معارك ومجادلات حوله . ويكفيه فخرا أن الفضل يعزو إليه في تحطيم الفلسفة المادية التي غرقت فيها الأمة ويكفيه فخرا انه ساهم مساهمة فعالة وكبرى في نشر الإسلام في إفريقيا وأسيا من خلال فكره ورجاله وزواياه بنسيج نادر في الكوكب الارضى الذي نعيش فيه ما يعرف بمدارس الشيخ والمريد والتي كانت نواة لمدارس فكرية شاملة .
فقرائحه مراتب وفضائله مواهب وعلمه عباب زاخر ورجاله الأوائل ترك للأواخر ذخائر ونفائس وفنون وعلوم وتربية وسلوك ومنهج وطريق فالنفس البشرية واحدة والمعاصي كثرت والمصائب انتشرت ولا يخرجها إلا الرجوع للأصول والنصوص . فالتصوف الحقيقي هو الذي يبتعد عن التهاوش والتناوش ويسكن إلى التعايش والتقارب ويسعى إلى التآلف والتحابب ويكره التباغض والتنافر ويحث على المطالب وينهى عن السفا سف .
إننا أمام هذه التحديات التي تعصف بنا من كل جانب أدعو العقلاء إلى دراسة المعطيات بمداخلها ومخارجها والتي تراكمت علينا مر السنين نتيجة تخلفنا في التعامل مع ألازمات سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو فكرية ووجدنا أنفسنا أمام تحديات وأزمات وملفات مرحلة نطالب اليوم بفتحها وإزالة الغبار عنها ولعل منتدى الحوار المفتوح اليوم يجعلنا ندلج من بابه الامامى ونطالب بوضع اطر ورؤى وفق الحريات المنضبطة وبمشاركة جميع القوى الجماعية وليست النخبوية فقط . ادعوا إلى الانفتاح على المستقبل وعدم الانسلاخ من الماضي بفكره ورجاله وعلومه ومسيرتنا سائرة طالما عذرنا بعضنا فيما اختلفنا فيه فما يجمعنا اكثر بكثير مما يفرقنا وحوارنا الوطني ملاذ للجميع تحت مظلة الإسلام الخالدة وتراثه الأصيل .
ولهذا كان معظم علماء الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة يجمعون بين الشريعة والطريقة في الطرح والمناقشة والتربية والتعليم والسلوك والاستنباط والاستدلال فهم يجمعون بين الروح والجسد دون طغيان وكتبهم ناطقة بذلك ومن ساحات الحرمين الشريفين تخرج العلماء الربانّين . إننا في أمس الحاجة التي التصوف الحجازي المنضبط بروح الشريعة وحقيقة التصوف ولنكن أنموذجا لسائر الأمم في كل شيء .